هل يؤثِّر تأخُّر سِنّ الزواج على الخطط الإنجابيَّة للأسرة؟
- أسباب تأخُّر سنِّ الزواج
- ما هو تأثير تأخُّر سنّ الزواج على الخطط الإنجابيَّة؟
- كيف يمكن التغلُّب على التحدِّيات التي تواجه الخطط الإنجابيَّة مع تأخُّر الزواج؟
واحدة من سمات هذا العصر هو تأخُّر سنّ الزواج، للرِّجال والنِّساء على السواء. لأسباب اجتماعيَّة واقتصاديَّة ونفسيَّة أصبح الشباب يعزفون عن قرار الزواج حتَّى سنٍّ متأخِّرة، ويأخذون قرار الارتباط والاستقرار بكثير من التردُّد والتشكُّك في أهميَّة الخطوة وضرورتها. وعلى الرغم من المعاناة التي واجهتها كثير من المجتمعات العربيَّة في العقود الماضية مع السنِّ المبكِّر للزواج ومحاولات تجريمه ومنعه حرصًا على صحَّة المرأة النفسيَّة والجسديَّة وعدم تعرُّضها للاستغلال، وأيضا مع حملات التوعية بضرورة تحديد النسل والتحكُّم في عدد الأطفال والسيطرة على الزيادات السكانيَّة المتفجِّرة، إلا أنَّ الوضع الآن أصبح على النقيض، وعلى الطرف الآخر تمامًا للمعادلة، وأصبح المجتمع يمارس ضغوطًا مختلفة لإقناع الشباب والبنات بأهمِّيَّة الزواج، وبقيمة الأسرة، وبأهمِّيَّة الإنجاب في وقتٍ مناسب لإعطاء الأطفال فرصًا أفضل في الرعاية والاهتمام وأكثر أمانًا على المستوى الوراثيّ والبيولوجي كذلك.
تُشير إحدى الدراسات الأمريكيَّة إلى أنَّه في عام 1970 كان متوسّط سنّ الزواج 20.1، بينما في عام 2000 كان 25.7، ووصل في عام 2018 إلى 28.9، وهو ما يُشير إلى تأخُّر سنّ الزواج، وما يَتبع ذلك من تأخُّر في سنِّ الحمل لأوَّل مرَّة، وبالتالي عدد الأطفال في الأسرة.
أسباب تأخُّر سنِّ الزواج:
- الضغوط الماديَّة: أصبح الشباب خاصَّة يشعرون بضغط ماديّ كبير أمام فكرة تكوين الأسرة، بداية من تكاليف التأسيس الباهظة، ومرورًا بمسؤوليَّات المعيشة الأسريَّة اليوميَّة التي تتزايد أسعارها يومًا بعد يوم. بالإضافة إلى التطلُّع الطبقي والاهتمام الكبير بالمظاهر التي أصبحت كثير من الأسر تُعطي لها اهتماما كبيرًا، وتتمسَّك به كشرط لإتمام الزيجات، بدلا من التركيز على جوهر العلاقات، والاهتمام الأكبر بتأسيسها النفسي السليم، وبناء قواعدها وجذورها خطوة بخطوة.
- الاهتمام بالاستقرار المهنيّ: وسط الدعاوي العالميَّة للاهتمام بالمسار التعليمي والمهني، أصبحت الفتيات تعيد ترتيب أولويَّاتها، وتشعر بضغط الترقّي الوظيفي الذي يجب أن يسير بمحاذاة الرجل خطوة بخطوة ولا يتأخَّر عنه، الأمر الذي يؤدِّي إلى جعل الزواج والأمومة وتكوين الأسرة والتفرُّغ لها، تأخذ مرتبة متأخِّرة نسبيًّا على سلَّم الأولويَّات. وحتَّى بالنسبة للشباب فإنَّ الادِّخار والسفر والاستثمار أصبحت أفكارا أكثر جاذبيَّة وسهولة من اتِّخاذ خطوة الزواج والاستقرار.
- القلق من المسؤوليَّة: يُفضِّل الكثير من الشباب والبنات تأجيل الزواج من أجل إتاحة وقت أطول للفردانيَّة، وقت يشعرون خلاله بالحريَّة والانطلاق دون التكبُّل بالأسرة والأطفال، يحيطهم في هذا القرار شعور بالقلق والخوف من تحمُّل المسؤوليَّة والقدرة على الالتزام بدائرة من المهامّ والمسؤوليَّات التي لا تنتهي.
- الخوف من الفشل: ارتفعت في السنوات الأخيرة درجة الوعي والمعرفة النفسيَّة، وعلى الرغم من أنَّ هذا الأمر إيجابي بدرجة كبيرة جدا، إلا أنَّه يُسهم بشكل ما في شعور الشباب بالقلق والخوف من الفشل في التجربة، بالنظر إلى ارتفاع حالات الطلاق المحيطة بهم، وبالنظر أيضًا إلى وعيهم بحجم المسؤوليَّة والتضحيات النفسيَّة والجسديَّة والاجتماعيَّة التي تنتظرهم بعد تكوين الأسرة.
- عدم إيجاد (الزوج/الزوجة)المناسب/ة: وهو يعتبر أحد أهمّ الأسباب التي غالبًا ما يشير إليها الشباب في استطلاعات الرأي المختلفة. قد يرجع هذا السبب إلى التوقٌّعات المثاليَّة لدى الشباب والبنات، والرغبة في الحصول على زوج/زوجة مثاليّ، وقد يكون راجعاً إلى عدم معرفة الشباب الحقيقيَّة باحتياجاتهم وما يبحثون عنه. وأحيانًا يكون السبب اجتماعيًّا بحتًا، مثلًا بسبب الهجرة، أو الغربة بحثًا عن العمل، أو ضيق الدوائر الاجتماعيَّة، أو غيرها من الأسباب الاجتماعيَّة.
ما هو تأثير تأخُّر سنّ الزواج على الخطط الإنجابيَّة؟
على الرغم من وجود الكثير من الإيجابيَّات لتأخُّر سنّ الزواج، مثل النضج الشخصي والنفسي، والتقدُّم على المستوى المهني، وتحديد الشخص لخارطة أهدافه وخططه المستقبليَّة بدقَّة أكبر، وتحقيق الاستقرار المادِّي، إلا أنَّه هناك الكثير من السلبيَّات التي تنتج عن تأخير سنِّ الزواج، ربما يتعلَّق كثير منها بالخطط الإنجابيَّة للزوجين، مثل:
- الخصوبة ومخزون البويضات لدى المرأة: تعتمد درجة خصوبة المرأة على البويضات التي ينتجها المبيض، وذلك من خلال عاملين مهمّين:
- عدد البويضات أو مخزونها في المبيض، والتي تُنتج شهريًّا وفقا للدورة الشهريَّة للإناث، والتي يقلُّ عددها في الثلاثينات من العمر مقارنة بالعشرينات.
- جودة البويضات وما تحمله من صفات وراثيَّة والتي تقلُّ جودتها أيضًا مع التقدُّم في العمر، ممَّا يزيد من احتماليَّة حدوث مشكلات صحيَّة للطفل، أو الولادة بتحوُّرات جينيَّة مثل متلازمة داون.
كما أنَّ الدراسات تشير كذلك إلى تأثُّر الخصوبة لدى الرجل، حيث وجد أنَّ الأطفال المولودين لآباء في الأربعينات، تزيد احتماليَّة المشكلات الصحيَّة لديهم مقارنة بالمولودين الآباء في العشرينات من العمر.
- زيادة احتماليَّات الإجهاض: وفقًا للدراسات فإنَّ احتماليات الإجهاض تتزايد مع التقدُّم في العمر، وكلَّما تأخَّر عمر الأم عند الحمل كانت هناك احتماليَّة أكبر لعدم اكتمال الحمل، وفقد الجنين.
- مشكلات تشوُّه الأجنَّة والعيوب الخَلقيَّة: تزيد احتمالات تشوُّه الأجنة، أو التحوُّرات الجينيَّة، أو الولادة بعيوب خَلقيَّة، كلَّما كان عمر الأُمّ أكبر وقت الحمل مقارنة بالسنِّ الأصغر للأُمَّهات.
- الصحَّة العامَّة: تؤثِّر رحلة الحمل على الصحَّة العامَّة للأم، فالمخاطرة الوحيدة ليست توفُّر البويضات وخصوبتها، ولكن الأُمّهات الأكبر سنا يكونن أكثر عرضة أثناء الحمل للإصابة بسكَّر الحمل، وارتفاع ضغط الدم، والولادة المبكّرة، ومشكلات الحمل. والحقيقة أنَّ مستويات الصحَّة العامَّة التي تحتاجها الأم مع أطفالها لا تتعلَّق فقط بالحمل والولادة والرضاعة، ولكنَّها تمتدّ لتشمل المجهود البدني المطلوب من الأُمّ لسنوات، من السهر والحركة والطاقة البدنيَّة والنفسيَّة المطلوبة للعب مع الأطفال، ومجاراتهم في الحركة، والرغبة في استكشاف العالم، والفضول المستمر.
- التباعد العمريّ بين الأطفال: الزواج المتأخِّر يترتَّب عليه الحمل المتأخِّر لأوَّل مرَّة، وهو ما يصعّب عمل تباعد زمني بين الطفل الأول والثاني، أو الثاني والثالث وهكذا. وبالتالي يكون الزوجان أمام خيارين: إمَّا عدم ترك مسافات زمنيَّة بين الأطفال، وما يعنيه ذلك من مجهود صحِّي وبدني على الأُم، وضغوط نفسيَّة وجسميَّة وماديَّة على الأسرة بشكل مكثَّف، وإمَّا الخيار الثاني: وهو الاكتفاء بعدد أقل من الأطفال، واحد أو اثنين فقط.
- المشكلات الزوجيَّة: تشير الدراسات إلى أنَّ النضج النفسي واستقرار تكوُّن الشخصيَّة في مرحلة الثلاثينات من العمر، على الرغم من كونها ميزة إيجابيَّة كبيرة في الزواج المتأخِّر، إلا أنَّها سلاح ذو حدين. حيث يكون الزوجان في العشرينات من العمر أكثر مرونة للتغيير وللتكيُّف على طباع الآخر، وأكثر قابليَّة للوصول إلى حلول ترضي جميع الأطراف، وتكوين لغة تفاهم وتواصل مشتركة. هذا الأمر يصبح أصعب مع زيادة السن، حيث يُقابل كل طرف الآخر بصلابة أكبر في الرأي، وتمسّك أكبر بالموقف، مع صعوبة الوصول إلى منطقة وسط، ممَّا يؤدِّي إلى مشكلات الطلاق المتكرِّرة، وصعوبة الوصول إلى اتِّفاقات مشتركة، واتِّخاذ القرارات المهمَّة مثل الإنجاب.
- فرق السن بين الوالدين والأطفال: في حال تأخُّر سنّ الزواج والإنجاب، فإنَّ فرق السن المتوقَّع بين الأطفال ووالديهم هو على الأقل ثلاثين عامًا، ممَّا يعني تقريبًا فرق جيل كامل. وهذا يعني فجوة كبيرة بينهم تظهر في التواصل ولغة الحوار والنظرة التي يتعامل بها كل منهم مع المجتمع والقيم والحياة بشكل عام.
كيف يمكن التغلُّب على التحدِّيات التي تواجه الخطط الإنجابيَّة مع تأخُّر الزواج؟
- الكشف الطبِّي الشامل: وفيه تُفحَص البويضات ومخزونها وجودتها، كما تفحص الحيوانات المنويَّة للزوج للتأكُّد من كفايتها وكفاءتها. كما يُتؤكَّد من إمكانيَّة حدوث الحمل بتلقائيَّة أو الاحتياج للتدخُّل الطبِّي سواء عن طريق العلاجات المحفِّزة للتبويض مثلا أو التدخُّل بعمليَّات الحقن الصناعي سواء داخل الرحم أو خارجه وفقًا لكلِّ حالة. كما يُقيَّم وضع الصحَّة العامّ لاتِّخاذ الاحتياطات والعلاجات اللازمة في حال وجود أي احتمال لحدوث مضاعفات صحيَّة مترتِّبة على الحمل.
- التفكير المسبق والتخطيط: هذه الخطوة تصبح أصعب في الثلاثينات منها في العشرينات، حيث إنَّ حجم التنازلات والتضحيات التي يُتوقَّع أن يقدِّمها كلا الوالدين يصبح أكبر، سواء على المستوى الاجتماعي، أو المهني، أو المادِّي. لذا لا بد أن يناقش الزوجان معًا هذا القرار وما يترتَّب عليها من خطوات والتزامات مشتركة.
- استكشاف عمليَّات تجميد البويضات: صحيح أنَّها خيار مرتفع التكلفة، إلا أنَّ العلم الحديث أصبح يقدِّمها كأهم طرق التغلُّب على تأخُّر سنّ الزواج، والرغبة في تأجيل الحمل. ومن خلالها تستخلص البويضات في سنٍّ مبكِّر، وتخزَّن وتجمَّد بطرق طبيَّة متطوَّرة، ويعاد تلقيحها عند اتِّخاذ قرار الإنجاب. الميزة الرئيسيَّة التي يتيحها هذا الحل هو الحصول على بويضات بصحَّة ومواصفات جينيَّة أفضل، بالإضافة إلى إمكانيَّة عمل تباعد زمني بين الأطفال دون الخوف من مخزون البويضات وجودتها، بشرط توفُّر الصحَّة العامَّة الجيِّدة للأُم.
- الالتزام بنمط حياة صحِّي: في حالة وجود أطفال، فالاهتمام بالصحَّة ليس خيار رفاهيَّة، حيث إن الوالدين هما مصدر الأمان والقوَّة الوحيد للأطفال. لذا فلا بد من الاهتمام بالتعوُّد على نمط تغذية صحِّي، مع محاولة الالتزام بروتين رياضي يومي، وأيضا الاهتمام بجودة النوم وتنظيمه، مع أهمّيَّة الإقلاع عن العادات الصحيَّة المضرَّة مثل التدخين وتعاطي الكحوليَّات. كما أنَّه يفضَّل عمل كشف دوري عام للصحَّة، للاطمئنان على أيِّ مشكلة في بدايتها وعدم الإهمال في المتابعة الطبّيَّة المنتظمة.