أجسادُ النِّساء سَاحاتُ مَعارِك | مِلَفّ العُنف الجنسيّ في النِّزاعات المُسلَّحة والحُروب
لطَالما كان العُنف الجنسي تجاه النِّساء حاضرًا في كافَّة الحروب والنَزاعات المُسلَّحة على مرِّ التاريخ، إذ لم يقتصر على كونه سلوكًا فرديًّا مُروّعًا تنتهجهُ قلةٌ من الجنود فحسب، وإنَّما استُخدِم -في مُعظم الأحيان- كأداة حربٍ مُمنهجة، ووَرقة ضغطٍ عسكريَّة، ووسيلة من وسائل إرهاب أصحاب الأرض ودفعهم نحو النزوح، وخيارًا عسكريًّا يتنافى مع كافة المبادئ الإنسانيَّة والأخلاقيَّة المُتعارف عليها.
وفي ظلِّ تفاقم الأزمات الإنسانيَّة في بُلداننا العربيَّة جرَّاء النزاعات المُسلَّحة الحاليَّة، بات تسليط الضوء على مفهوم العُنف الجنسيّ وتاريخه، فضلًا عن تداعياته القاسية على سلامة النِّساء، وصحّتهن النفسيَّة والجسديَّة، وسُبل التعامل معهُ ضرورةً لا بُدَّ منها.
مفهومُ العُنف الجنسيّ .. إرهابٌ من نوعٍ آخر!
في ظلّ تصاعُد تداعيات النزاع المُسلَّح في قطاع غزَّة والسودان على مدار الأشهر السابقة، أدانت الأمم المتَّحدة تفاقم حوادث العنف الجنسي المُرتبط بالنزاع تجاه النِّساء، وعرَّفت المُنظَّمة العُنف الجنسي بأنّهُ: “أي سُلوكٍ أو تهديدٍ جنسي، يتمُّ دُونَ مُوافقةِ الضّحيَّة، ويشملُ العُنفَ الجِنسيّ: الاعتدِاءَ الجنسيّ، والاغتصاب، والتَّحرُّش، والابتزاز، والاستغلال، والإكراه على البِغاَء“.
وخلال وقتٍ سابق، أدرجت المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة الاغتصاب وغيرهُ من أشكال العُنف الجنسي ضمن قائمة جرائم الحرب، بينما أشار تقريرٌ أمميُّ حديث، إلى أنَّ الأمم المُتَّحدة قد تحقَّقت من وجود ما يقرُب من 3,888 حالة عُنفٍ جنسي متَّصل بالنِّزاع، شكَّلت النِّساء ما يقرُب من 95% منها، وذلك خلال أحداث العُنف الجارية.
لماذا يتفاقمُ العُنف الجنسيّ في زمنِ الحَرب؟
”أن تكون امرأةً في نزاعٍ مُسلَّح، أخطر من أن تكون جنديًّا في ساحة حرب”، هكذا عبَّر اللواء باتريك كاميرت (Patrick Cammaert)، المُستشار العسكري للأمين العام للأمم المُتَّحدة عن الخطر الكبير الذي تُواجهه النِّساء خلال النِّزاعات المُسلَّحة.
فمُنذ القِدَم، اُستُخدِم العُنف الجنسيّ ضدّ النِّساء كسلاحِ حرب، وأداة قمع، ووسيلة لإرغام العدو، وفي بعض الأحيان تطوَّر الأمر إلى استخدامه كمُخطَّطٍ لتغيير التركيبة العرقيَّة للبلاد، خلال العديد من صراعات التطهير العرقي، مثل مُعسكرات الاغتصاب الجماعي في حرب البوسنة، إذ تعرَّضت الأسيرات المُسلمات إلى الاغتصاب المُتكرِّر على يد الجنود الصّرب، بهدف إخصابهنَّ بأجنَّةٍ من العرق ذاته، وفقًا لما روَتهُ النَّاجيات.
تاريخُ العنفِ الجنسي في النِّزاعات .. إشاراتٌ إحصائيَّة
في إطار تطوُّرات الحرب الأخيرة في غزَّة والسودان، وما يُرتكَبُ من فظائِعَ بحقِّ النِّساء، تعود بنا الذاكرة نحو تاريخٍ طويل من النِّزاعات المُسلَّحة التي شهدها العالم على مدار القرن الماضي، وما تضمَّنتهُ من انتهاكات جنسيَّة تجاه النِّساء، بدايةً من التَّحرُّش اللَّفظي، مُرورًا بـ الاغتصاب في الحرب، ووصولًا إلى قتلهِنَّ والتمثيلِ بأجسادهِنّ.
آلاف القصص والغُصص التي تجرَّعتها النِّساء على مدار تاريخ طويل من الحروب الدامية، إذ تُشير التقديرات إلى تعرُّض ما بين 20,000 إلى 50,000 سيِّدة وفتاة للاغتصاب في مُعسكرات الاغتصاب الصربيَّة، على مدار 3 سنوات من حرب التَّطهير العرقي التي دَارت رحَاها في البوسنة والهرسك حتَّى عام 1995م.
بالإضافة إلى ما لا يقلّ عن 200,000 حالة اغتصاب تعرَّضت لها النِّساء جرَّاء النزاع المُسلَّح في جمهوريَّة الكونغو الديمقراطيَّة عام 1996م، كما أشارت الإحصائيَّات ذاتها إلى تعرُّض حوالي 250,000 إلى 500,000 سيِّدة وفتاة للاغتصاب خلال الإبادة الجماعيَّة التي وقعت في رواندا عام 1994م.
اقرأ أيضًا: العنف قد يكون صامتًا
وصمةُ عَار .. التَّداعيات النفسيَّة للعُنف الجنسي
تتباين التأثيرات النفسيَّة للعُنف الجنسي من سيِّدةٍ إلى أُخرى، ويُعدُّ اضطرابُ ما بعد الصَّدمة (PTSD) أحد أشهر الاضطرابات النفسيَّة التي تُواجهها السيِّدات بعد المُرور بأحداثِ عُنفٍ جنسي خلال الحرب، والتي تتطلَّبُ تدخُّلًا عاجلًا، ورعايةً نفسيَّة مُكثَّفة خلال الستة أشهر الأولى من وقوع الحادثة بحدٍّ أقصى.
وتتمثَّل الآثار النفسيَّة الأخرى للعُنف الجنسي في الصَّدمات النفسيَّة طويلة الأمد والمُدمّرة، والتي تظهر أعراضها في هيئة عددٍ من الاضطرابات، مثل زيادة الشعور بالخوف، والقلق العام، والعجز، والاكتئاب، والشُعور بالعار، واليأس، ورُبَّما تقود الضحيَّة في نهاية المطاف نحو الانتحار.
وإلى جانب الآثار النفسيَّة، يترك العُنف الجنسي في النزاعات آثارهُ المُجتمعيَّة الخطيرة، مثل تفكُّك الروابط الأسريَّة، والشعور بالخزي والوصمة، وخاصَّةً في حال ولادة أطفال جرّاء التعرُّض للاغتصاب، مما قد يدفع بعض السيِّدات إلى العُزلة، ومُحاولة الإجهاض، ورُبما الإلقاء بالمولود بعيدًا، والتخلّي عنه.
آثارُ العُنف الجنسيّ على الصحَّة الجسديَّة
تتفاقم الآثار الصحيَّة التي يتركها العنف الجنسي في أوقات النزاعات يومًا بعد يوم، وخاصةً في ظل افتقار الضحايا لخدمات الرعاية الصحيَّة الأساسيَّة التي تُقيّدها ظروف الحرب، إذ قد تُعاني السيدات من الاعتلالات الصحيَّة الخطيرة، مثل فيروس نقص المناعة المُكتسبة (HIV)، وحالات النزيف المهبلي الحادّ، بالإضافة إلى اعتلالات الجهاز العصبي، واضطرابات الجهاز الهضمي، والإعياء العام، وغير ذلك من المشاكل الصحيَّة الخطيرة.
اقرأ أيضًا: الصحَّة الإنجابيَّة للنساء في الحروب والكوارث
كيفَ تُدافعين عن نفسكِ في حالات الخَطر؟
هُناك العديد من التدريبات التي يُمكنك تعلُّمها من أجل مواجهة مخاطر الاعتداءات الجنسيَّة خلال الحروب، إذ تُمكِّن تدريبات الدفاع عن النفس النِّساء من مُجابهة مخاوف التّعرُّض للعُنف الجنسي، والحفاظِ على سلامتهنَّ، وخاصَّةً في حال تواجُدهنّ ضمن مناطق النزاع، كما أنَّها قد تلعب دورًا كذلك في مُساعدة الناجيات اللواتي يعانين من اضطرابات ما بعد الصدمة في تعزيز الثقة بداخلهنَّ، والتَّخفيف من وطأة حالات الفزع من تكرار الحادثة، ومن أبرزها:
- ركِّزي على نقاط الضّعف: يُساعد الترَّكيز على نقاط الضَّعف لدى المُهاجم على إفقاده قدرتهُ على الهُجوم، لذا وجِّهي ضرباتك نحو العين، الأنف، الفخذ.
- اركلي منطقة أعلى الفخذ: يُساعد توجيه الرَّكلات نحو منطقة الأعضاء التناسليَّة أعلى الفخذ على شلِّ قُدرة مُهاجمك، ومنعه من الحركة لبرهةٍ من الزَّمن، ممَّا قد يُساعدك على الفرار من قبضته.
- صدّ المُعتدي عبر ضربات الكُوع: تُعدُّ ضربات الكوع المُوجَّهة نحو أسفل الذَّقن وسيلةً فعالةً في حال قُربه الشَّديد من الجسم، أو في حال عجزك عن توجيه الرَّكلات باستخدام القدمين أو الذراعين.
بالإضافة إلى التدريبات السابقة، احرصي على البقاء ضمن مجموعة، فهذا من شأنه أن يوفِّر لكِ قدرًا أعلى من الحماية، مع إبقاء بعض الأدوات الحادَّة إلى جوارك للدِّفاع عن نفسك في حال تعرُّضك للهجوم.
مطالبٌ مشروعة واحتياجاتٌ صامتة!
يُعدُّ السؤال عن احتياجات ضحايا العنف الجنسي في الحُروب من أهمِّ النُّقاط التي ينبغي طرحها ضمن هذا السياق، وعلى الرَّغم من فداحة الأحداث وبشاعتها، إلا إنَّ مُعظم احتياجات الضحايا لا تتعدَّى طلب المُعاملة الإنسانيَّة، وإظهار التَّعاطف، والحفاظ على خصوصياتهنّ، وضمان أمنهن، ومُساعدتهنّ على الاندماج في المُجتمع مُجدّدًا، والوقوف في وجه تعرّضهن للعُنف الجنسي مُجدّدًا طوال فترة استمرار النِّزاع العسكري.
كما تتمثَّل احتياجات النِّساء ضحايا العنف المُرتبط بالنِّزاعات المُسلَّحة كذلك في توفير حقّهن في الحصول على الرعاية الصحِّيَّة، والدَّعم النفسي العاجل، والذي يُعدُّ تحدِّيًا كبيرًا ليس أمام الضَّحايا وحدهُنَّ فحسب، وإنِّما أمام الطواقم الطبيَّة كذلك، نتيجة صعوبة الوصول إلى مناطق النِّزاع المحفوفة بالمخاطر.
اقرأ أيضًا: لننهض معًا ضدّ العنف الصَّامت
دورُ هيئات المُجتمع المدني والمُنظَّماتُ الدوليَّة
مع الأسف الشديد، فإنَّه في كلِّ مرّة يُطرح بها هذا الملفّ الشَّائك على طاولة النِّقاش بهدف الوصول إلى حلول فعَّالة، فإنَّ نتائج هذه المناقشات لا تُثمر غالبًا إلا عن مجموعةٍ من التَّوصيات التي لا يكادُ يُرى أثرُها على أرض الواقع، وسط الظروف الكارثيَّة التي تفرضها سياقات النِّزاعات المُسلَّحة، ومع ذلك تظل المُطالبة المُستمرَّة بتطبيق توصيات المُنظَّمات الدوليَّة ضرورةً مُلحَّة، وتشمل أهمّ التَّوصيات الأمميَّة:
- تدعيم عمل قوَّات حفظ السَّلام، والمُساهمة في تحديد النَّهج المُتَّبع للتصدِّي لحالات العُنف الجنسي، مثل تخصيص قوّات راجلة لحماية السيِّدات أثناء جلبهنّ المياه، أو بحثهنّ عن الطَّعام خلال الأزمات.
- تدريب قوَّات الأمن في مُختلف البلدان حول العالم على سُبل التَّصدِّي لحالات العُنف الجنسي، وإنشاء وحدات خاصَّة تُعنى بهذه الحالات.
- وضع تدابير وسياسات واضحة للتَّعامل مع حالات العنف الجنسي، وسنّ قوانين رادعة للجُناة، ومُساعدة ضحايا العُنف الجنسي في الحُصول على التعويضات القضائيَّة العادلة، ودعمهنَّ ماديًّا ومعنويًّا.