كيف أثَّرت الرأسماليَّة على العلاقات؟

- كيف تُؤثِّر الرأسماليَّة على العلاقات؟
- أبرز سمات العلاقات في ظلِّ النظام الرأسماليّ
- كيف تبدو الرومانسيَّة التي يُروِّج لها الإعلام الرأسماليّ؟
- هل يُهدِّد النظام الرأسماليّ استقرار الأسرة؟
مرّ العالم عبر مئات وآلاف السنين بالكثير من الموجات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المختلفة، عشرات النظريَّات والأفكار والفلسفات الكامنة خلف عقل الإنسان وسلوكه، ونهضة المجتمعات وقوّتها، وشبكة كبيرة معقَّدة من العلاقات بين السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع والتفوُّق والتدهور، وما أن تنهض أمم حتى تسقط غيرها، وهكذا. وفي كلِّ الأزمنة، فإنَّ النظام الاقتصادي لم يَكُن مُنفصلًا عن الأنظمة السياسيَّة بصراعاتها، ولا حتَّى عن العلاقات الاجتماعيَّة بأدقّ تفاصيلها. تعرف على أثَّر الرأسماليَّة على العلاقات فهي سمة هذا العصر، ولغته الأساسيَّة بلا مُنازع، وهي نظام اقتصادي قائم على المِلكيَّة والرِبح والتنافُس الحُرّ. تُشجِّع على الإنتاج وتحقيق المكاسب الفرديَّة في ظلِّ عالمٍ شديد الانفتاح، وأسواق حُرَّة تُثمِّن الاستهلاك والمظاهر والتباين الطبقي. كل هذه المفردات لها تأثيرات كبيرة على طبيعة الشخصيَّة، وعلى العلاقات بمختلف درجات قربها وأهميّتها، وعلى التكوين الأسري والاجتماعي بشكل عام.
كيف تُؤثِّر الرأسماليَّة على العلاقات؟
الرأسماليَّة نظام ضاغط، يدفع الأشخاص للتتنافس، والسعي طوال الوقت من أجل فرص أفضل، ومستوى أعلى. تعتمد على تقديم الإغراءات طوال الوقت بامتيازات أكبر واحتمالات صعود طبقي أعلى إذا استمرَّ الأفراد في العمل والتنافس بطموح لا ينتهي. وعوضًا التركيز على قيم التعاون والمودَّة والتراحم والتشاركيَّة بين الأفراد وفي العلاقات على اختلاف أنواعها، أصبح التركيز الأكبر على النجاحات والمكاسب الشخصيَّة، وأصبحت الدعوات أقوى لقيم الإنجاز الفردي، ممَّا أثَّر على جودة العلاقات وقوّتها، وأدَّى في كثير من الأحيان لتفكُّك روابط الأسرة والمجتمع.
ومن أبرز سمات العلاقات في ظلِّ النظام الرأسماليّ:
- الفردانيَّة: أثَّر الرأسماليَّة على العلاقات بالتفكير في النفس أولًا وقبل كل شيء، وجَعل النجاح الشخصي والرغبة في الترقّي الطبقيّ وتحقيق الثروة أولويَّة تأتي قبل الأسرة وأفرادها واحتياجاتهم، وقبل العلاقات الاجتماعيَّة من صداقات وعائلة وغيرها.
- الضغط النفسيّ: وشعور الأفراد الدائم أنَّهم في سباق لا ينتهي، ويَسعون نحو هدف لا يصلون إليه. ممَّا يجعل الأفراد مُنعدمي الطاقة، وغير قادرين على التواجد الحقيقي في العلاقات، وليس لديهم مساحة نفسيَّة للعطاء أو التحمُّل أو التراحم.
- العمل أولويَّة: نتيجة للتطلُّعات الاقتصاديَّة التي يُروّج لها النظام الرأسماليّ، تُصبح معظم الأسر تحت ضغط الإغراءات أسيرة لهذا النظام، فيقتحم الزوجان سوق العمل ويُصبحان في دائرة لا نهائيَّة من رغبات الترقّي، وتسديد الاحتياجات، والبحث عن الفرص الأفضل.
- تسطيح العلاقات: ساهم في هذا الأمر الثورة التكنولوجيَّة، التي جعلت وسائل التواصل الاجتماعي في يد كل فرد من أفراد الأسرة، يستطيع التواصل على مدار الساعة مع أفراد العائلة والأصدقاء وزملاء العمل، بل ويبنى العديد من العلاقات والصداقات الافتراضيَّة. على الرغم من أنَّ هذا يبدو كتكثيف للعلاقات الاجتماعيَّة، إلا أنَّه في الحقيقة يعتبر تسطيحًا لها. حيث لا يكون الأفراد حاضرين بعمق في العلاقات، ولا متاحين بشكل حقيقيّ لتبادُل المشاعر ومُمارسة الجوانب الإنسانيَّة العاديَّة من العلاقات.
- التركيز على الاستهلاك كجزء من أسس العلاقة: على سبيل المثال، يتحوَّل الزواج في ظلّ النظام الرأسماليّ العالميّ لقائمة كبيرة جداً من المتطلّبات الاستهلاكيَّة، والسلع اللانهائيَّة التي يجب أن يسعى لها الزوجان وعائلتهما. وكثيرًا ما تمثِّل هذه القوائم الاستهلاكيَّة عبئًا كبيرًا على المقبلين على الزواج، بل وقد تعوق أو تؤخِّر من الإقدام على قرار تكوين الأسرة -وهو أحد أعمدة بناء المجتمع- نتيجة للعجز عن استيفاء المُتطلّبات الطبقيَّة التي تُمليها النظريَّة الرأسماليَّة على المقبلين على الزواج.
كيف تبدو الرومانسيَّة التي يُروِّج لها الإعلام الرأسماليّ؟
لا شكَّ أنَّ الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل وعي الأفراد، وفي طريقة بناء أحلامهم وطموحاتهم وخيالاتهم عن المستقبل بكل ما فيه، لا سيما الإعلام في السنوات الأخيرة، والذي أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وما تعرضه من أهم أدوات الانفتاح على العالم الاستهلاكي. الأمر الذي جعل كثير من الشباب يتوقَّعون علاقات مثاليَّة، مليئة بالهدايا الغالية، والسهر في الأماكن الفاخرة، والاحتفالات الكبيرة المُبالغ فيها بأي مُناسبة وكل مُناسبة، وبيوت مثاليَّة في مُجمَّعات سكنيَّة راقية.. وغيرها من عناصر الحياة التي أصبح يُطاردها الشباب في علاقاتهم، ويعتبرونها هدفًا في حدِّ ذاتها، وقد يصابون بالإحباط أو فُقدان الأمل عند اصطدامهم في الواقع بحقيقة مستواهم وطبيعة إمكانيَّاتهم أو وضعهم الطبقي.
كل هذه المشاهد التي يُصدِّرها ويروِّج لها الإعلام الرأسماليّ بقنواته المختلفة مثل السوشيال ميديا والدراما الأمريكيَّة وإعلانات البراندات العالميَّة التي ترسم صورة مثاليَّة للحياة المُرفّهة، تجعل الحياة بالنسبة للشباب سباقًا لا ينتهي، وتطلّعًا طبقيًّا ليس له آخر. الأمر الذي يؤثّر بدوره عالميًّا على درجات الرضا عن الحياة الزوجيَّة، وعن درجات النجاح والإنجاز التي يحققها الفرد أو زوجه.
البُعد السلبيّ الآخر من السعي نحو هذا النمط الاستهلاكيّ من العلاقات، هو غياب الوعي، أو تشتُّت الشباب بالمتطلّبات المثاليَّة الاستهلاكيَّة / الاستعراضيَّة، وعدم الاهتمام بالتدقيق في الاختيار، أو الاستثمار الحقيقي في العلاقات، والتعرّف الواعي والعميق على الطرف الآخر، والاهتمام ببناء حياة مُشتركة صادقة وحقيقيَّة أساسها الحبّ والاحترام والتفاهم، بدلاً من التركيز على المظاهر الطبقيَّة.
هل يُهدِّد النظام الرأسماليّ استقرار الأسرة؟
كما ذكرنا، فإنَّ أنماط العلاقات الاجتماعيَّة، قد تأثَّرت بشكل كبير بالنظام الرأسمالي، وما فرضه من سمات على المجتمع بطبقاته المختلفة من سباقات وصراعات نحو الترقّي، ومحاولة الوصول إلى مزيد من الفرص في سوق حرَّة مفتوحة وتنافسيَّة لأقصى الدرجات. فكيف يمكن أن يؤثِّر هذا النمط الاستهلاكي التنافسي على الأسرة التي هي عماد المجتمعات وعلى استقرارها؟
– التأثير على الأدوار التقليديَّة في الأسرة: نظراً لانخراط الزوجين في سوق العمل نتيجة أثَّر الرأسماليَّة على العلاقات، سواء لرغبة المرأة في تحقيق نجاح مهني ومادي، أو لاحتياج الأسرة لعمل الزوجين معًا للوفاء باحتياجاتهما الأسريَّة في ظلِّ الضغط الاقتصادي العالمي، ومحاولة الأسر توفير مستوى طبقي أعلى وأفضل لأبنائهم. وبالتالي فإنَّ الأدوار التقليديَّة التي تتوقَّع وجود الزوجة في المنزل، وقيامها برعاية الأبناء، وقيام الزوج وحده بالعمل لتوفير احتياجات الأسرة، لم يعد النموذج التقليدي كما كان، بل أصبح هناك الكثير من التغيُّرات التي يستجيب لها البعض بمرونة عن طريق مشاركة الزوجين في كل مسؤوليَّات الأسرة، ولكن لا تزال الكثير من الأسر عالميًّا تُحارب من أجل الحصول على وضع مُتوازن ومُرضي لأطراف الأسرة، التي لم تعد المرأة فيها غالبًا قادرة على العمل داخل المنزل وخارجه، ولم يستطع الرجل -بعد- الانخراط في المشاركة داخل المنزل.
– قرار الزواج في ظلّ الثقافة الاستهلاكيَّة: كما ذكرنا، فإنَّ اتخاذ قرار الزواج أصبح عبئًا يزداد صعوبة مع التحدّيات الاقتصاديَّة العالميَّة، ورغم ذلك فإنَّ الزواج لا يزال سوقًا استهلاكيًّا كبيرًا يتطلَّب الكثير من الموارد الماليَّة، والاستعداد بالكثير من السلع والمظاهر والطقوس الاستهلاكيَّة.
– الضغوط الاقتصاديَّة على الأسرة: كثيرًا ما تواجه الأسرة تحدّيات اقتصاديَّة قد تضطر الزوج للعمل لساعات طويلة، أو ساعات إضافيَّة، أو الانخراط في أكثر من عمل أحيانًا، بل والسفر للعمل بعيدًا عن الأسرة في كثير من الأحيان. كما أنها قد تُحتّم على الزوجة أيضًا الانخراط في سوق العمل لساعات طويلة يوميًّا. ممَّا يؤثِّر على قضاء الزوجين أوقاتًا مُرضية معًا، والشعور بالضغط الدائم حتى أثناء الإجازات وأيَّام الراحة نتيجة كثرة المسؤوليَّات والالتزامات الماديَّة، ممَّا يؤدِّي مع الوقت لانخفاض الرضا الزواجي، وغياب التواصل الحقيقي بين الزوجين، وتشتّتهما الذهني، وشعورهما الدائم بالإرهاق والاستنزاف، ممّا يعوق الاستثمار في الجوانب العاطفيَّة والرومانسيَّة من العلاقة الزوجيَّة.
– تحول دور الزوج إلى مُموِّل أو ماكينة بنك: يشكو كثير من الأزواج في العقود الأخيرة انفصالهم العاطفي والأسري عن الزوجة والأبناء، وانحصار دورهم في ماكينة البنك أو المُموِّل الشخصي.
– انخراط الزوج في العمل لساعات طويلة، وغيابه عن المشاركة بدوره كأب وزوج في الروتين اليومي لأبنائه وأسرته، وانفصاله عن تفاصيل حياتهم ومشكلاتها وتحدّياتها.
– المتطلّبات الاستهلاكيَّة التي لا تنتهي: في ظلّ أثَّر الرأسماليَّة على العلاقات فإنَّ هناك دائما متطلّبات جديدة للأسرة، وتطلُّعات لا تنتهي للترقّي الطبقي، واحتياجات جديدة يصنعها السوق ويروِّج لها الإعلام، وتُرمى من جديد على عاتق رب الأسرة، كاحتياج ينتظر من يسدّه.
إقراء ايضاً مقال : العلاقات الزَّوجيَّة في زمن الرَّأسماليَّة .. ما مدى تأثُّرها؟