المعايير الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وتأثيرها على الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة في الأردن

تشكِّل الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة جزءًا أساسيًّا من صحة الفرد ورفاهيته، إذ إنّها تؤثِّر بصورة مباشرة على الجوانب الجسديَّة والنفسيَّة وعلاقات الفرد الاجتماعيَّة، كما تؤدِّي دورًا محوريًّا في تنظيم الاقتصاد للأُسر، وعلى الرغم من تَقدُّم الدراسات العلميَّة الباحثة في هذا المجال، إلّا أنَّ المكتبات العلميَّة العربيَّة لا تزال تفتقر لمثلها، ويعزى ذلك إلى أنَّ الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة تعتبر من القضايا ذات الحساسيَّة الخاصَّة لدى مجتمعاتنا العربيَّة، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنَّ الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة لا تقتصر على الجانب البيولوجي فحسب، بل تتعدَّاها بمراحل عديدة، وصولًا إلى صون حقّ الأفراد في الوصول إلى المعلومات والخدمات الصحيَّة المتعلِّقة بالجنس والإنجاب. وعلى مرِّ الزمان، تسبَّبت العديد من المعايير الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والموروثات الثقافيَّة، في تحديد ونُظْمِ أطر التفاعلات والتغيُّرات في العلاقات المبنيَّة على الأدوار المجتمعيَّة للنوع الاجتماعي، ولعلَّ قضايا العدالة في الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة  كان لها الحصَّة الأكبر في التأثُّر بتلك العوامل.

اقرأ أيضا في دراسة : الطلاق المبني على أسباب متعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية في الأردن

يناقش هذا المقال أبرز ما تطرَّقت إليه دراسة أجريت على عدد من السيِّدات في محافظة جرش حول “تأثير العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وديناميات النوع الاجتماعي على الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة للمرأة والفتاة لعام 2021” من إعداد المجلس الأعلى للسكَّان ومؤسَّسة شير نت الهولنديَّة العالميَّة.

أبرزت الدراسة تباينات واضحة بين جرش والمحافظات الأخرى في عدَّة جوانب مثل: معدَّلات الإنجاب، استخدام وسائل تنظيم الأسرة، وتعرُّض النساء للعنف. لكن المفارقة تظهر في ارتفاع نسب الزواج المبكِّر والعنف الأسري. كيف يمكن تفسير هذه التناقضات؟ وهل العوامل الاقتصاديَّة وحدها كافية لتبرير هذه التباينات؟

دوافع اهتمام الباحثين باختيار سيِّدات محافظة جرش عيَّنة للدراسة:

يعود اهتمام هذه الدراسة في تحديد مجتمعها البحثي “سيِّدات محافظة جرش” إلى الفروق الواضحة في الاهتمام بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة بين محافظة جرش وغيرها من المحافظات، والجدير بالذكر أنَّ العيِّنة المشاركة في البحث كانت من كلا الجنسين وقرابة 19% منهم غير أردنيِّين ما يشكِّل تباينات واضحة في إجابات العيّنة، نظرًا لاختلاف الثقافات والعادات والمعتقدات الثقافيَّة المتوارثة المتأصِّلة لديهم ذات العلاقة بالجنس والإنجاب.

وتظهر الفروق في الاهتمام بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة بين محافظة جرش وغيرها جليًّا في تسجيلها أعلى معدَّل استخدام لوسائل تنظيم الأسرة بين كافة المحافظات، ممَّا أدَّى إلى انخفاض معدَّل الانجاب الكلِّي بحسب بيانات عام 2017 بعدما كانت تحظى بأعلى معدِّل انجاب بين كافَّة محافظات المملكة، بحسب ما أوضحته بيانات عام 2012. لكن اللَّافت بالأمر، أنَّ وسيلة منع الحمل “اللولب” كانت أكثر الوسائل شيوعًا واستخدامًا، ويمكن تفسير ذلك من مبدأين: الأوَّل، وهو أنَّ اللولب تتجاوز فعاليته في منع الحمل لقرابة 5- 7 سنوات، هذا بحسب ما أظهرته الدراسات العلميَّة، ويعتبر من أنجح الوسائل للأسر التي ترغب بتأجيل الحمل أكثر من عام. أمّا المبدأ الثاني وهو “الموروثات الاجتماعيَّة التي تقول إنَّ أساليب منع الحمل، هي مسؤوليَّة الزوجة فقط، بل وتعتبرها معيبة بحقَّ الرجال أن يستعملوها”.

مقالات ذات صلة

أضف إلى ذلك، فقد لاحظ الباحثون، أنَّ نساء وفتيات محافظة جرش انخفضت نسبة تعرّضهنَ للعنف بأشكاله المختلفة بشكل كبير، إلّا أنَّ المُقْلق في الأمر هو ارتفاع كبير في نسبة من يصمتنَ عن تعرُّضِهنَ للعنف الجنسي والجسدي، ولم يسعَين للحصول على المساعدة اللازمة على الرغم من حصول إصابات عند بعضهن، هذا بحسب إحصاءات عام 2017 مقارنة بعام 2012.

وفي هذا الإطار وأكثر، ارتأى الباحثون لعقد مجموعات عمل مركَّزة مع العيِّنة المختارة، لمناقشتهم بكونها أكثر الطرق نجاعة في الحصول على معلومات خاصَّةً، وأنَّه يعتبر موضوعًا ذا حساسيَّة استثنائيَّة بالنسبة للمجتمع الريفي والحضري في المحافظة، آخذين بالحسبان أن يكون ميسرو الجلسات من نفس جنس المشاركين، تجنُّبًا للحرج، ومن أجل إعطائهم مساحة راحة وأمان للتحدُّث عن تجربتهم.

تأثير المعايير الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة على الزواج:

في هذا الجانب سعت الدراسة إلى بيان عدد من المحاور التي تتعلَّق بالزواج، كان أهمّها:

العمر المناسب للزواج: يتَّضحُ تأثّر العمر المناسب لزواج الفتاة بالعوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، من خلال إشارة النتائج بالأغلبيَّة إلى أنَّ أفضل عمر زواج للفتيات يكون بعد سنِّ العشرين، إذ أنَّها بنظر المشاركين تكون الفتاة قد دخلت مرحلة النضج والرشد واكتمال النموّ، في حين أنَّ بعض المشاركات من النساء المتزوّجات، أجمعنَ على أنَّ عمر 25 هو الأفضل للزواج، لأنَّ الفتاة وقتذاك تكون قد أنهت تعليمها الجامعي، ولربما بدأت بحياتها العمليَّة، ولا داعي للاستعجال بخطوة الزواج، إذا ما كانت الفتاة لا تزال على مقاعد الدراسة. وأنَّ الشباب يفضِّلون الفتيات اللواتي يعملن، بل إنَّ الوظيفة باتت من أهمّ معايير اختيار الزوجة. يمكن القول إنَّ المجتمع يتقبَّل بل ويرحِّب بمساهمة الزوجة في تحمُّل نفقات المنزل تحت مبرِّر “التشاركيَّة”، ويُعتقد أنَّ هذا يعزِّز شعورها بأهميَّة دورها وبذلك، يستثير الجانب العاطفي لديها. وفي المقابل، تبقى القرارات المصيريَّة من اختصاص الرجل وحده، بحجَّة أنَّ الرجل أكثر عقلانيَّة، وهو “الآمر الناهي” في المنزل.

تزويج القاصرات: تباينت الأراء بين مؤيِّدٍ له ومعارض، لكن الغالبيَّة العظمى رفضها رفضًا قاطعًا مبيِّنين أنَّها جريمة بحقّ الطفولة، وأحد أنواع التجارة عند بعض العائلات، فيما بيّن المؤيِّدون لها، أنَّ هذا يأتي من جانب التمسُّك بالعادات والموروثات الثقافيَّة، وفكرة أنَّ البنات “هَمْ” على حدِّ تعبيرهم، بالإضافة إلى القلق من انحرافها بسبب الفضاء الرقمي فالأفضل تزويجها، ومن جانب العوامل الاقتصاديَّة فقد توصَّلت الدراسة من خلال إجابات المبحوثين إلى أنَّ الفقر السبب الاقتصادي الوحيد لتزويج الفتيات مبكِّرًا.

تأثير المعايير الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة على العلاقة الحميميَّة:

لعلَّ أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذا المحور، هو أنَّ السيدات المتزوِّجات أبدينَ رأيهُنَّ بوجود قرارٍ لهنَّ أيضًا حول رغبتهنَّ أو رفضهنَّ للعلاقة الزوجيَّة، لطالما كانت القرارات دائمًا بيد الرجل، وأنَّ على المرأة أن تكون حاضرة دائمًا لتلبية رغبات زوجها حالما طلبها، الأمر الذي أشار إليه الرجال المتزوجون في إلزاميَّة الزوجة تلبية رغبات زوجها الجنسيَّة، وطاعته في الفراش في أي وقت، إلّا حال وجود عذر شرعي، فهذا حقّ من حقوق الرجل الأساسيَّة.

تأثير المعايير الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة على الإنجاب :

من خلال البحث، وُجِدَ أنَّ ارتفاع معدَّل الإنجاب في محافظة جرش، يعود بشكل أساسي لعوامل اقتصاديَّة، مثل ضمان وجود تأمين صحّي والذي بدوره يقلّل من كلفة الرعايّة الطبيَّة في فترتي الحمل والولادة. وهذا ما يثير تساؤلات حول مدى تكافؤ مثل تلك الفرص لكافَّة نساء المجتمع المُحدَّد على اختلاف ظروفهنَّ وظروف أزواجهنَّ الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. بذات الوقت، فإنَّ َتراجع المستوى الثقافي والمعيشي، يمكن أن يُجبر النساء على قبول ظروف غير عادلة، سواء على مستوى القرارات الإنجابيَّة، أو حتى تحمُّل العنف والصمت عنه! 

وفي هذا الجانب أيضًا، سعت الدراسة إلى بيان عدد من المحاور التي تتعلَّق بالإنجاب، كان أهمّها:

المعرفة بوسائل تنظيم الأسرة: يتَّضح أنّ غالبيَّة عيِّنة الدراسة من الرجال المتزوّجين، كانوا يرفضون استخدام الواقي الذكري، ولا يسمحون لزوجاتهم باستعمال وسائل تنظيم الحمل المناسبة لهنَّ، على خلاف السيِّدات المتزوّجات اللواتي يحبِّذنَ استخدامها، بل وأجمعنَ على ضرورة استخدامها، في حين اتَّضح أنَّ هنالك نظرة مجتمعيَّة سائدة لدى الشباب العزَّب في أنَّ استخدام تلك الوسائل، هي مسؤوليَّة تقع على عاتق الزوجة وحدها، وأكَّد مقدِّمو الرعاية الصحيَّة، أنَّ الزوج وأمّه هما السبب الرئيس في عدم استخدام الزوجة للوسائل.

مسؤوليَّة اتِّخاذ قرار الإنجاب: لا شكّ في أنّ قرار الإنجاب يعود للزوج فقط بحسب رأي المتزوّجين من الرجال والنساء، من منطلق أنَّ القرارات المهمَّة في الحياة الزوجيَّة يجب أن تكون بيد الزوج، إلّا أنَّ فئة الشباب العُزَّب الإناث منهم والذكور أشاروا إلى وجوب التشاركيَّة في اتِّخاذ الزوجين هذا القرار، بالاستناد على الظروف الماديَّة والاجتماعيَّة المحيطة.

وهذه الفجوة الجيليَّة في النظر إلى القرارات الزوجيَّة ليس فقط الإنجابيَّة، تبيِّن مدى تأثُّر المتزوّجين بالمفاهيم الاجتماعيَّة التي تضع الرجل في موقع المسؤول الأوَّل وصاحب الكلمة والمشورة، وكأنَّ المواضيع تتعلَّق به وحده، ولا تلقي بالًا لرأي شريكته. بالمقابل يؤكِّد رأي الشباب على المطالبة بنموذج أكثر ديمقراطيَّة في العلاقات الزوجيَّة، نموذج يسمح لكلا الطرفين بالمشاركة في اتِّخاذ القرارات المصيريَّة التي تؤثِّر على حياتهم بشكل مباشر.

تأثير العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة على التوعية الجنسيَّة في المؤسَّسات التعليميَّة:

شرحت الدراسة حجم تأثير الثقافة المجتمعيَّة في فكرة، أنّ “الفتاة لا يجوز لها أن تتثقَّف بالمواضيع الجنسيَّة قبل الزواج، إذ إنَّها تعتبر صغيرة على هذه المواضيع بحسب وصف السيِّدات المتزوّجات، وبيّن أغلب الرجال المتزوّجين تأييدهم على ذلك، لأنَّ مصدر المعلومة موثوق وآمن كالمدارس والجامعات، وهذا ما يعتبر أكثر أمانًا من البحث على الانترنت، وهذا أيضًا ما أشارت إليه الفتيات العازبات مع تأكيدهن على الأخذ بعين الاعتبار ملاءمة الموضوعات المطروحة لعمر الطلبة، غير أنَّ الشباب العازبين من الذكور فضَّلوا الحصول على المعلومات من خلال الإنترنت.

التحدِّيات التي تواجه السيِّدات في الحصول على الرعاية الطبيَّة

تواجه نساء محافظة جرش بعض التحدِّيات في محاولة حصولهن على الرعاية الصحيَّة، التي تعتبر إحدى أهم قواعد بنيان العدالة في الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، أهمّها: الدوافع الاجتماعيَّة المتمثِّلة في عدم وجود أحد تذهب معه إلى مقدِّمي الرعاية الطبيَّة، وخشية عدم وجود أطبَّاء إناث، بالإضافة للدوافع الاقتصاديَّة المتمثِّلة بعدم توفُّر المال، ما يشير إلى ضرورة وأهميَّة تمكين المرأة في المجتمع. وفي هذا الإطار أيضًا، من المهمّ الإشارة إلى التدنِّي الواضح في مستوى رضا الزوجين للحصول على المعلومات والمشورات في التوعية الجنسيَّة قبل الزواج أو بعده من قبل المختصِّين بذلك. ويرجع ذلك إلى عدَّة مسبِّبات، كالحرج الاجتماعي وثقافة العيب، واعتبار أنَّ هذه المواضيع شخصيَّة لا يجب أن تطرح علنًا للأخرين حتى لو كانو مختصِّين، علاوة على النظرة المجتمعيَّة التي تحدِّد دور الزوج بجملة “أنَّ الرجل الحقيقي يستطيع الوقوف على كافَّة ما يعرقل صفو حياته وحياة عائلته وحلِّها”. بالإضافة إلى نقص المتخصِّصين القادرين على تقديم معلومات دقيقة وشاملة، بطريقة تحترم الثقافة المحليَّة. 

ختامًا، يجدر التأكيد على أنَّ الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، تحمل في طيّاتها معانٍ عدَّة، إذ إنَّها تعتبر جزءًا من الصحَّة العامَّة للأفراد، وتساهم في مواجهة الظروف الماديَّة، والحدّ من الفقر، وتحقيق شكل من أشكال التنمية المستدامة في المجتمعات.

المصدر:

المصاروة، ع.، الحمدان، ز.، و بوادي، ه. (2021). تأثير العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وديناميات النوع الاجتماعي على الصحة الجنسيَّة والإنجابيَّة للمرأة والفتاة في محافظة جرش. المجلس الأعلى للسكان.

اظهر المزيد

رزان المومني

رزان المومني، حاصلة على درجة البكالوريوس في الإعلام، باحثة ومحكِّمة علميّة في مجال العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، متخصصة في مجال التحقق من المعلومات والتربية الإعلامية والمعلوماتية، وصانعة محتوى مرئي ومسموع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى