التمييز المبني على النوع الاجتماعي في الأردن: الأشكال والممارسات

يبرز الاهتمام بالتمييز المبني على النوع الاجتماعي بكونها من أكثر القضايا الاجتماعيَّة تأثيرًا على التنمية المستدامة للمجتمعات بما في ذلك المجتمع الأردني، حيث تلعب الصورة النمطيَّة لدور المرأة في المجتمع والفجوة التي شكَّلها بين الجنسين تحدِّيات واضحة تعرقل المرأة من التقدُّم والحصول على حقوقها الكاملة، إذ إنَّ التمييز لا يقتصر على مجال محدَّد، بل امتدَّ ليشمل القوانين والتشريعات، والحياة العمليَّة، والمشاركة السياسيَّة وغيرها.

ورغم كافَّة المحاولات والجهود المبذولة من قبل مؤسَّسات المجتمع المدني لتعزيز المساواة بين الجنسين، إلّا إنَّ العُرْف المجتمعي السائد الذي أطَّر دور المرأة وحجَّمه، لا يزال يلقي بظلاله على مساعي تحقيق المساواة الحقيقيَّة.

 اللَّافت بالأمر، أنَّ الدستور الأردني كان قد ضَمِنَ المساواة بين المواطنين، إلّا أنَّ هنالك فجوات واضحة بين النصوص القانونيَّة والممارسات الفعليَّة، كما أنَّ الدّعوات المناهضة لأشكال التمييز ضدّ المرأة كافَّة قوبلت بالرفض المجتمعي، وواجهت النساء موجة من السخرية والاستهزاء أثناء نضالهنَّ للحصول على حقوقهن عبر المظاهرات والاحتجاجات السلميَّة منذ منتصف القرن الماضي. كان المجتمع الذي تغلب عليه العقليَّة الذكوريَّة والتقاليد المحافظة ينظر إلى هذه التحرُّكات النسويَّة باعتبارها “مطالب تافهة” و”تقليداً أعمى للغرب”، متجاهلًا جوهرها المتمثِّل في تحقيق العدالة والمساواة. كانت تلك المظاهرات تُقابل في كثير من الأحيان بالتقليل من شأنها، حيث يجري تصوير النساء المشاركات فيها، وكأنَّهن يفتقرن إلى الفهم الحقيقي لأولويَّات المجتمع، أو يخترنَ خوض معارك لا قيمة لها.

في هذا المقال نناقش دراسة أُجريت في الأردن للبحث حول “التمييز المبني على النوع الاجتماعي“، لعام 2019 من قبل مركز المعلومات والبحوث- مؤسَّسة الملك الحسين، من جانب أهمّ أشكالها والممارسات الاجتماعيَّة التمييزيَّة من عدَّة جوانب.

أولًا: التمييز المبني على النوع الاجتماعي في القانون:

ممَّا أظهرته الدراسة، أنَّ مجموعة من القوانين، لا تزال بحاجة إلى إعادة النظر ومحاولة العمل على تعديلها لضمان حقّ النساء الأردنيّات في المساواة، من منطلق أنَّ القانون هو اللبنة الأولى والأساسيَّة في تشكيل وعي المجتمعات وتوجيه سلوكها. فتعديل القانون لا يقتصر أثره على تحقيق العدالة فحسب، بل يسهم تدريجيًّا في تغيير نظرة المجتمع تجاه حقوق المرأة، ممَّا يعزِّز مناصرتها ويضع حدًّا للتنميط الذي يقيِّد أدوارها، ويحدّ من مساهمتها الفاعلة في مختلف مجالات الحياة.

ولعلّ أبرز ممارسات التمييز ضدّ المرأة بالقانون هو حرمانها من حقِّ منح أبنائها الجنسيَّة الأردنيَّة إذا كانت قد تزوجت بغير أردنيّ، أو كما وصفتها الدراسة بــــــــــــ “التمييز بالمواطنة” وهو شكل من أشكال الظلم الذي لا يقتصر أثره على المستوى المجتمعي فحسب، بل يمتدّ ليؤثِّر بشكل مباشر على حياتها الشخصيَّة واختياراتها المصيريَّة. فمثل هذا التمييز، يقيِّد حقّ المرأة في اختيار زوجها بناءً على معايير تتناسب مع احتياجاتها العاطفيَّة والاجتماعيَّة، ويضعها أمام معضلة معقَّدة بين رغبتها في تأسيس حياة مستقرَّة وبين تبعات قانونيَّة تحدّ من حقوقها وحقوق أبنائها مستقبلًا، إذا ما تزوجت بغير أردني. وهذا لا يكرّس فقط الفجوة بين الجنسين بل يعزِّز أيضًا الأنماط الاجتماعيَّة التي تضع المرأة في إطار التبعيَّة، عوضًا عن تمكينها كفرد قادر على اتِّخاذ قراراته بحريَّة ومسؤوليَّة.

اللَّافت بالأمر، أنَّ مبادرات كسب التأييد التي نفذَّتها النساء ومؤسَّسات المجتمع المدني على مدار عقود للمطالبة بحقوق مدنيَّة لأبناء الأردنيّات، لاقت صدىً واسعًا في الحكومة، وقُدَّمت على إِثْرِها مجموعة تسهيلات لهم، ضمن شروط محدَّدة كإقامة الأم في الأردن مدَّة 5 سنوات، وبالحديث حول هذا الموضوع، تجدر الإشارة إلى نضالِ السيِّدات وما قّدَمْنَهُ منذ أربعينيات القرن الماضي لانتزاع حقوقهنَّ في العديد من القضايا من خلال أصواتهنَّ الحُرَّة التي صدحت في باحات العاصمة عمّان، وساهمْنَ في تعديل قوانين مختلفة، لعلَّ أهمّها القانون الذي كان يقضي بتجريد المرأة الأردنيَّة من جنسيّتها، إذا ما تزوجت بغير أردني والذي ظلَّ معمولًا به حتى عام 1987.

ثانيًا: التمييز المبني على النوع الاجتماعي في المؤسَّسات الدينيَّة

قبل الحديث مطوّلًا في هذا الجانب، وجبت الإشارة إلى أنَّنا نتحدَّث عن هذا التمييز في “المؤسَّسات الدينيَّة” لا في “الأديان”، أي على الصعيد المهني والعملي في المؤسَّسات الدينيَّة، لا على الصعيد الشرائعي أو الديني بحدّ ذاته.

تنصّ المادَّة (13) من الدستور الأردنيّ على منح المؤسَّسات الدينيَّة سلطة مباشرة على مسائل الأحوال الشخصيَّة، ما يعني أنّها تستند إلى تفسيرات المؤسَّسات الدينيَّة التي يغلب العاملين فيها من الذكور مثل المحاكم الشرعيَّة ودائرة الإفتاء العام ودائرة قاضي القضاة، وذات الأمر ينطبق في المحاكم الكنسيَّة. في حين أنَّ النساء يعملنَ حصرًا في دائرة الإصلاح الأسري، كما نراهنَّ يعملنّ أيضًا كواعظات في المساجد (مراكز السيِّدات) في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة. وهذا الواقع يطرح إشكاليَّة كبيرة بالنسبة للعديد من النساء في المجتمع المحلِّي، اللواتي يشعرن بعدم الارتياح عند مناقشة قضاياهنَّ الشخصيَّة والحسَّاسة مع رجال، فالمرأة في كثير من الأحيان تجد صعوبة في التعبير بحريَّة تامَّة عن مشاعرها وهمومها في بيئة يغلب عليها الطابع الذكوري، ممَّا يعزِّز من الفجوة بين ما تحتاجه فعليًّا وبين ما يتمّ تقديمه لها. وبالتالي يصبح تمثيل المرأة في تلك المناصب لمسائل الأحوال الشخصيَّة ضرورة ملحَّة، ليس فقط لتحقيق التوازن بين الجنسين، بل أيضًا لضمان تلبية احتياجات النساء بفعاليَّة واحترام خصوصيتهنّ.

وفي هذا الإطار، لم تكن النساء يومًا في مراكز صنع القرار لتلك المؤسَّسات ليس لأسباب قانونيَّة؛ لأنَّ القانون لم يمنعهن من تسلُّم تلك المهام، إلّا أنَّ الثقافة المجتمعيَّة السائدة، دائمًا ما كانت تقف عائقًا أمام الإيمان والثقة بقدرتهنَّ على تسلُّم المناصب القياديَّة. هذه الثقافة التي تتَّسم بتفضيل الرجل في مواقع السلطة واتِّخاذ القرار بحكم أنّه كما يوصَف: “عقلاني والمرأة عاطفيَّة، ولا مكان للعاطفة في القانون”، فتعزِّز بذلك القوالب النمطيَّة التي تصوُّر المرأة كعنصر داعم فقط، وليس كقائدة تمتلك الكفاءة والقدرة على إدارة المؤسَّسات والتأثير في سياساتها. وفي ظلِّ هذا الوضع تُحرم النساء من الفرص التي تتيح لهنَّ إثبات جدارتهنَّ، ويتم استبعادهنَّ من دوائر صنع القرار، التي تشكِّل مستقبل قضايا الأحوال الشخصيَّة، وغيرها من المجالات.

ثالثًا: الممارسات الاجتماعيَّة التمييزيَّة

أظهرت الدراسة مجموعة من المعايير والممارسات التمييزيَّة بحقّ المرأة داخل نطاق المجتمع الأردني، كتعزيز وتثبيت الأدوار النمطيَّة في المناهج الدراسيَّة لطلبة المدارس والتي حصرت المرأة في مهامّ محدَّدة تتعلَّق بالمنزل، وأدوار بسيطة في سوق العمل، في حين عزَّزت من دور الرجال القيادي على مستوى الدولة والمجتمع.

ولا شك أنَّ الرجل يلعب دورًا محوريًّا في بناء المجتمع، فهو قوَّة دافعة في مختلف المجالات، ولا تكتمل عجلة الحياة إلا بوجوده ومساهماته الفاعلة. ومع ذلك فإنَّ النظرة التقليديَّة التي تقلِّل من أهميَّة دور المرأة وتختزله في أطر ضيِّقة، تجعل التوازن بين الجنسين غائبًا، وتضع المرأة في موقع تابع لا يُبرز إمكانيَّاتها الحقيقيَّة، في حين أنَّ المرأة قادرة على المساهمة جنبًا إلى جنب مع الرجل في تحقيق التنمية المستدامة. لكن هذه التصوّرات النمطيَّة، تُضعف مكانة المرأة، وتُبقيها بعيدة عن أدوار التأثير وصنع القرار، ممَّا يؤدِّي إلى استمراريَّة فجوة غير منصفة بين الجنسين.

بالإضافة إلى ما سبق، فإنَّ انعدام التمثيل الحقيقي والمنصِف للمرأة في وسائل الإعلام، يُعدّ جزءًا من منظومة التمييز المبني على النوع الاجتماعي. إذ يتمّ تجاهل القضايا التي تخصُّ النساء بشكل متعمّد أو غير مباشر، حيث تُهمَّش المواضيع المتعلِّقة بحقوق المرأة وإنجازاتها، فالمحتوى الذي يُقدَّم أحيانًا، يُعزِّز الصور النمطيَّة للمرأة، ويشير ضمنيًّا إلى نقص قدراتها المعرفيَّة أو المهنيَّة. هذا النمط وإن لم يكن مقصودًا، فهو يُكرّس المفهوم السائد، بأنَّ أدوار النساء في المجتمع، أقلّ أهميَّة مقارنة بالرجال.

كما يفسح الإعلام مجالًا بشكل أكبر للرؤى الذكوريَّة في الخطاب الإعلامي، ويتَّضح هذا التمييز من خلال اختيار مسؤولين ذكور للحديث عن قضايا سياسيَّة أو اقتصاديَّة مهمَّة، في حين يتمّ تغييب النساء، حتى وإن كنّ مؤهلات لتناول هذه الموضوعات.

  • ممَّا لا شك فيه أنَّ ما طُرِحَ في هذا المقال هو جزء بسيط جدًّا من أشكال وممارسات التمييز المبني على النوع الاجتماعي، ورغم كافَّة المحاولات السابقة للسيِّدات المناضلات لانتزاع حقوقهنَّ، إضافة إلى جهود منظَّمات ومؤسَّسات المجتمع المدني، إلّا أنَّنا ما زلنا في بداية الطريق. لا تزال نساؤنا وفتياتنا يتعرَّضنَ لممارسات تمييزيَّة متنوِّعة؛ تشمل الجوانب القانونيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة وغيرها، وهي ممارسات يصعب حصرها في مقال واحد، أو حتى دراسة واحدة. لذلك، فإنَّ معالجة هذه القضيَّة، تتطلَّب نهجًا متكاملًا وشاملًا، يبدأ بتعزيز الوعي حول أهميَّة المساواة الجندريَّة، مرورًا بتعديل القوانين التمييزيَّة وتطبيقها، وصولاً إلى إعادة تشكيل الثقافة السائدة التي تكرّس الأدوار النمطيَّة، وتحدّ من فرص النساء.

ختامًا، فإنَّ تحقيق المساواة المبنيَّة على النوع الاجتماعي ليس رفاهية أو خيارًا، بل هو ضرورة مجتمعيَّة وإنسانيَّة لبناء مجتمع متوازن يضمن مشاركة جميع أفراده على قدم المساواة، وهو السبيل لتحقيق تنمية حقيقيَّة ومستدامة، وهو مسؤوليَّة تقع على عاتق الجميع من أفراد، وحكومات، ومؤسَّسات دون استثناء.

اظهر المزيد

رزان المومني

رزان المومني، حاصلة على درجة البكالوريوس في الإعلام، باحثة ومحكِّمة علميّة في مجال العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، متخصصة في مجال التحقق من المعلومات والتربية الإعلامية والمعلوماتية، وصانعة محتوى مرئي ومسموع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى