دور برامج التوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة في التماسك الاجتماعي الأردني
المقدمة
تُمثِّل الأسرة النواة الأساسيَّة في بناء المجتمع، وهي أهمّ مؤسَّسة اجتماعيَّة توكل إليها مهمَّة التنشئة الاجتماعيَّة، كما أنَّها أوَّل وأهمّ النظم الاجتماعيَّة التي أنشأها الإنسان لتنظيم حياته في الجماعة، باعتبارها المؤسَّسة التي ينتمي إليها الفرد، وتصنع الجذور الأولى لشخصيِّته وخبراته التي تستمرّ طوال حياته. حيث إنَّ أي تغيير يحدث في النظام الأسري، لا بد أن ينعكس بدوره على النظم الاجتماعيَّة الأخرى، كما تستجيب الأسرة للتغيُّرات التي تحدث في المجتمع، وبالتالي تتأثَّر بتلك النظم الاجتماعيَّة السائدة في المجتمع وتؤثِّر فيها؛ فالأسرة هي حجر الزاوية للنسق الاجتماعي، والخليَّة الأساسيَّة التي يتكون منها البناء الاجتماعي البشري، إذا صَلُحَت صَلُحَ المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع كله.
ترسم العلاقات الزوجيَّة ملامح الخليَّة الاجتماعيَّة الأولى للأسرة التي تساهم لاحقًا في النماء والتماسك المجتمعي، وفي حال إخفاقها وتفكُّكها، فإنَّ ذلك ينعكس في التفكُّك الاجتماعي الذي يهدِّد التماسك الاجتماعي. ومن أهمِّ التحدِّيات التي تواجه الأسرة هي عمليَّة الانفصال (الطَّلاق) لما لها من تبعات سلبيَّة على التوازن الاجتماعي. وبالعودة إلى التقارير والاحصاءات الرسميَّة السنويَّة، فإنَّ نسب الطلاق في الأردن متزايدة، ممَّا يجعلنا أمام إشكاليَّة اجتماعيَّة كبيرة ومركَّبة، يتوجَّب على أصحاب المصلحة إيلاءها اهتمامًا كبيرًا، من حيث البحث والدراسة والمعالجة.
ومن أجل المساهمة في تشخيص الإشكاليَّة وسبل معالجتها، أعدَّ مركز حكاية لتنمية المجتمع المدني(1)، دراسة تحليليَّة متخصِّصة بعنوان: (الطَّلاق المبني على أسباب متعلِّقة بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة في الأردن)، والتي وجدت علاقة بين الصحَّة الإنجابيَّة والجنسيَّة وأسباب الانفصال (الطَّلاق). وبناء على نتائج الدراسة وتوصياتها، وحرصًا على إشراك أصحاب المصلحة في معالجة الإشكاليَّة؛ يأتي ملخَّص السياسات هذا بعنوان: (دور برامج التوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة في التماسك الاجتماعي الأردني) استكمالًا لنتائج الدراسة وتوصياتها، ولتحديد الأولويَّات التي تساهم في تطوير البرامج والسياسيات التوعويَّة المتعلِّقة بهذا المجال، وسُبُل استدامتها.
أولًا: التحدِّيات التي تواجه برامج التوعية الجنسيَّة والإنجابيَّة
تواجه خطط وبرامج التوعية المتعلِّقة بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة مجموعة من التحدِّيات التي تشكِّل عائقًا أمام نجاعتها وتأثيرها، ويمكن تلخيص أبرز التحدِّيات في النقاط التالية:
تعدُّد المرجعيات المؤسَّسيَّة المتعلِّقة بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة وضعف التنسيق فيما بينها، بالتالي تشعُّب البرامج والأنشطة الوطنيَّة، ممَّا يُعيق العمل التكاملي البنيوي في المجال المعرفي.
غياب برامج الرصد والمتابعة والتقييم المعلوماتيَّة المتعلِّقة بالطلاق والتوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، سواء على النطاق المحلي للمناطق، أو حتى على النطاق الوطني الشمولي لجميع المحافظات الأردنيَّة.
ضعف كبير لدور المؤسَّسات الدينيَّة في تسخير الخطاب الديني للتوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، ودورها في التماسك الاجتماعي.
لا تزال الصورة النمطيَّة وثقافة الصمت والوصمة الاجتماعية، أهم المعوِّقات الاجتماعيَّة التي تحول دون مشاركة فئات المجتمع في برامج التوعية المتعلِّقة بالصحَّة الجنسيَّة.
ثانيًا: مراجعة تطوير الإستراتيجيَّة الوطنيَّة للصحَّة الإنجابيَّة والجنسيَّة للأعوام 2020- 2030
احتوت الاستراتيجيَّة الوطنيَّة للصحَّة الإنجابيَّة والجنسيَّة للأعوام 2020- 2030 على أربعة أهداف استراتيجيَّة ضمن أربعة محاور، هي: البيئة الممكِّنة من خلال تطوير تشريعات وسياسات داعمة وممكِّنة لقضايا الصحَّة الجنسيَّة والانجابيَّة المتكاملة، والخدمات والمعلومات التي تتحقَّق من خلال توفير خدمات ومعلومات صحَّة جنسيَّة وإنجابيَّة مدمجة ومتكاملة ذات جودة لكافَّة السكَّان في كافة مناطق الأردن، والمجتمع الذي يتناول تحقيق اتِّجاهات ومعتقدات وسلوكيَّات مجتمعيَّة إيجابيَّة تجاه قضايا الصحَّة الإنجابيَّة والجنسيَّة، إلى جانب الاستدامة والحوكمة. (2)
تتوافق نتائج الدراسة التي قام بتنفيذها مركز حكاية لتنمية المجتمع المدني مع ما توصلت إليه الاستراتيجيَّة للصحَّة الإنجابيَّة والجنسيَّة 2020-2030، حيث إنَّ هناك تحدِّيات وقضايا جوهريَّة تواجه الصحَّة الإنجابيَّة والجنسيَّة في الأردن، والتي يمكن تلخيصها كما يلي:
ضعف الاهتمام بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، كأولويَّة على المستوى الوطني ومحور تنموي مرتبط بأهداف التنمية المستدامة، وأنَّ هناك العديد من الاستراتيجيَّات والخطط لبرامج الصحَّة الإنجابيَّة، إلا أنَّ عددًا منها غير مفعّل، وهي كذلك تفتقر إلى التنسيق والتكامليَّة، ولا توجد خطط وبرامج كافية فيما يتعلَّق بالصحَّة الانجابيَّة والجنسيَّة، كما أنَّ هناك غيابًا واضحًا لمؤشِّرات شاملة وموحَّدة متعلَّقة بالصحَّة الانجابيَّة والجنسيَّة، والأهمّ من ذلك عدم توفير الميزانيَّة الكافية والمستدامة وذات الأولويَّة الموجَّهة لقضايا الصحَّة الجنسيَّة والانجابيَّة.
بالرغم من ذلك، ولأنَّ الاستراتيجيَّة الوطنيَّة قد مرَّ عليها عامان، وجدت دراسة مركز حكاية أهمِّيَّة كبيرة لمراجعة وتطوير الاستراتيجيَّة الوطنيَّة مع التركيز على تحديد أولويَّات برامج التوعية، والعمل على إدراج خطط عمل أهداف إجرائيَّة ذات نطاقٍ زمني محدَّد، وذات أدوارٍ واضحة مع إيلاء اهتمام كبير ببرامج التوعية الرقميَّة.
ثالثًا: التربية الإعلاميَّة من أجل التوعية السليمة بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة
أدَّت جائحة كوفيد19 وما نتج عنها من إغلاقات، إلى تسريع وتيرة التحوُّل الرقمي في مجال الاتِّصال والخدمات لا سيَّما العمل والتعليم. ومع تزايد الاعتماد على الإعلام الرقمي خصوصًا في المناطق النامية التي تمتاز بالأُميَّة الرقميَّة، أصبح المجتمع الرقمي سلاحًا ذا حدَّين، خصوصًا فيما يتعلَّق بالثقافة الجنسيَّة والصحَّة الانجابيَّة، وفي العلاقة داخل الأسرة، خاصَّة عندما لا تتوفَّر المعلومات والمصادر الكافية سواء للأطفال والشباب أو للآباء والأُمّهات، ممَّا يضطر جميع هذه الفئات إلى اللجوء نحو العالم الافتراضي واسع المعلوماتيَّة.
يتزايد القلق بشأن تأثير (الحميميَّة الرقميَّة)(3) على الأطفال والمراهقين والأزواج داخل الأسرة، حيث يوفِّر الهاتف المرتبط بالإنترنت المفتوح على العالم، فرصة مواتية لوصول هذه الفئات إلى معلومات ومحتوى جزء منه يعكس صورة تعليميَّة علميَّة ذات أهداف تعليميَّة تثقيفيَّة، ولكن المحتوى الأكبر منها يرتبط بمحتوىً مُتخيَّل ذي أهدافٍ تسويقيَّة يؤثِّر سلبًا في التثقيف الجنسي وينعكس بدوره على العلاقات الزوجيَّة مستقبلًا، وهذا الأمر مرتبط بفرصة حدوث تفكُّكٍ أُسري، كما توصَّلت دراسة مركز حكاية لتنمية المجتمع المدني حول الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة.
من أجل مراعاة هذا التحوُّل ومعالجة إشكاليّته مع الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، لا بد من تعزيز وتطوير برامج التربية الإعلاميَّة ومحو الأُميَّة الرقميَّة التي تمنح (النساء/ الرجال/ الفتيان/الفتيات) الكفاءات المعرفيَّة والمهارات اللازمة للتعامل مع فوضى المعلومات لإدارة العلاقات الرقميَّة، بالإضافة إلى مسألة حماية الخصوصيَّة وحوكمة المحتوى الرقمي داخل الأسرة، بالتالي لا بدَّ هنا، من تطوير مناهج ومقرَّرات التعليم المتعلِّقة بالتربية الإعلاميَّة، بحيث يُخصَّص قسم منها للتوعية بمصادر المعلومات السليمة للصحَّة الجنسيَّة، وسبل التعامل معها والوصول الآمن إليها.
رابعًا: إعادة تصنيف برامج التوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة
وجدت الدراسة التي نفَّذها مركز حكاية حول الصحَّة الجنسيَّة، غياب منهجيَّة تعلُّم واضحة حول الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، ومن المهمّ للتقييم وقياس الأثر، وجود منهجيَّة موحَّدة تراعي التقسيم والتصنيف المرحلي للفئات الاجتماعيَّة المستهدفة من برامج التعلُّم، على سبيل المثال، يمكن إعادة تصنيف برامج التوعية كما يلي:
الأولويَّة | الفئة العمريَّة | درجة التوعية |
برامج التوعية الموجَّهة للأطفال في المرحلة التعليميَّة الأساسيَّة. | (8-12) سنوات | تأسيسيَّة |
برامج التوعية الموجَّهة للمراهقات والمراهقين في المرحلة التعليميَّة الابتدائيَّة والثانويَّة. | (12-16) | ابتدائيَّة |
برامج التوعية الموجَّهة للشابَّات والشبَّان. | (16-18) | متقدِّمة |
برامج التوعية الموجَّهة للمقبلات والمقبلين على الزواج. | أكبر من سن 18 | شاملة |
البرامج الموجَّهة للمتزوِّجين. | أكبر من سن 18 | متخصِّصة |
خامسًا: أولويَّات تقع على عاتق الحكومة الأردنيَّة
الالتزام بالهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة (الصحَّة الجيِّدة والرفاه)، والذي يشير إلى أنَّه بحلول 2030، لا بدّ من ضمان حصول الجميع على خدمات الرعاية الصحيَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، بما في ذلك الخدمات والمعلومات لتنظيم الأسرة والتوعية الخاصَّة بها، وإدماج الصحَّة الإنجابيَّة في الاستراتيجيَّات والبرامج الوطنيَّة.
العمل على توفير الموارد المؤسَّسيَّة والوطنيَّة والدوليَّة لتمويل الخطط التنفيذيَّة الخاصَّة بقضايا الصحَّة الإنجابيَّة والجنسيَّة، والتي تسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مع التركيز على الهدف الثالث الذي يُعنى بالصحَّة والرفاه.
العمل على متابعة وتعزيز دور الخطاب الديني والدروس في المساجد والمراكز الدينيَّة، بحيث يكون خطابًا ومحتوى حاضنًا لبرامج التوعية المتعلِّقة بالإرشاد الصحِّي الجنسي، والعلاقة بين الزوجين داخل الأسرة، بالإضافة إلى بناء القدرات المعرفيَّة لخطباء المساجد حول الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة.
تطوير المناهج والمقرَّرات التربويَّة في المدارس الحكوميَّة والجامعات الرسميَّة لتعزيز المحتوى المتعلِّق بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، ودعم الأنشطة اللامنهجيَّة المرتبطة بالتوعية والإرشاد، وتعزيز قدرات المرشدين في المدارس لعقد برامج توعية دوريَّة في مؤسَّسات التعليم.
التحوُّل الرقمي لبرامج التثقيف والتأهيل الإنجابي قبل الزواج، والعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة المتعلِّقة بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة للشابات والشبَّان في الأردن، حيث يساهم هذا التحوُّل في وصول المحتوى التثقيفي لشرائح اجتماعيَّة أوسع، وتبقى مرجعًا رقميًّا يمكن الوصول إليه مستقبلًا.
سادسًا: دور مُنظَّمات المجتمع المدني
تمتاز منظَّمات المجتمع المدني في الأردن بالانتشار الواسع، حيث لا توجد مدينة أو قرية أو بادية لا تتوفَّر فيها مؤسَّسة اجتماعيَّة تساعد المجتمعات المحليَّة من خلال برامج التنمية، ويقع على عاتق هذه المؤسَّسات دورٌ مهمُّ في إدراج برامج التوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة في الأنشطة والمشاريع التي تقوم بتنفيذها، ويمكن لهذه المؤسَّسات الاستفادة من التجارب الناجحة التي قامت بها المؤسَّسات الأخرى داخل الأردن، والعمل على توحيد الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف، وهنا تقع مسؤوليَّة موازية على المنظَّمات الدوليَّة والأُمميَّة في الأردن التي تُعنى بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، على تخصيص برامج تساعد هذه المؤسَّسات في الأرياف والبوادي على تصميم برامج التوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة.
سابعًا: دور مراكز الدراسات البحثيَّة
تحتاج برامج التوعية بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة إلى برامج تقييم واستطلاعات رأي دوريَّة تساهم في تطوير البرامج التوعويَّة وفق احتياجات المجتمعات المحليَّة، وهنا تقع مسؤوليَّة على مراكز البحث والدراسات لا سيما في الجامعات الرسميَّة، وتخصيص برنامج بحثي خاصّ بقضايا الطلاق والصحَّة الجنسيَّة والانجابيَّة، لما لهذا المحور البحثي من ارتباطٍ وثيق بالاستقرار والتماسك الاجتماعي.
هوامش
(1) مؤسَّسة أردنيَّة غير ربحيَّة تأسست عام 2013م على يد نخبة من الشباب الأردني الناشط في المجتمع المدني والعمل التطوعي والتمكين الساسي والتثقيف الحقوقي.
(2) المجلس الأعلى للسكَّان، الاستراتيجيَّة الوطنيَّة للصحةَّ الإنجابيَّة والجنسيَّة للأعوام 2020-2030
(3) للمزيد حول العلاقات الشخصيَّة والحميميَّة في العصر الرقمي، يمكن مراجعة الفصل الأول من كتاب علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقديَّة، من إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت – سلسلة عالم المعرفة.