الحياة المهنيَّة والعائليَّة؛ خطوات لتحقيق المعادلة الصعبة
- لماذا يحتاج الإنسان للموازنة بين الحياة العمليَّة والعائليَّة؟
- التحدّيات التي تواجه الموازنة بين العمل والأسرة
- كيف يمكن تحقيق التوازن بين الحياة المهنيَّة والعائليَّة؟
واحدة من أصعب ضغوطات هذا العصر، هو المحاولات اللانهائيَّة لعمل التوازن بين العمل والمنزل، وبين الحفاظ على مسارٍ مهنيّ وتحقيق النجاح به، مع إعطاء الأسرة والأطفال الأولويَّة وعدم التقصير في احتياجاتهم ومسؤوليّاتهم. ولأنَّها موازنة صعبة، فهي كثيرا ما تكون مصدراً للخلاف بين الزوجين، اللذين يتعرضان لضغوط خارجيَّة وداخليَّة، قد تبدأ بعدم وجود وقت للراحة والتقاط الأنفاس، ولا تنتهي عند الالتزامات الماديَّة المتراكمة التي لا يصلح معها الهروب من دائرة العمل.
الحقيقة أنَّ العمل لا يُشبع الاحتياجات الماديَّة فقط، بقدر ما هو أهمّ دوافعه. ولكنَّه أيضًا يُشبع العديد من الاحتياجات النفسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة لدى الأشخاص، وربما نجد أنَّ كل شخص يَنخرط في الحياة المهنيَّة لديه بَاقته الخاصَّة من الدوافع والأسباب التي تدفعه للاستمرار، بمختلف أوزانها وأهمّيتها النسبيَّة له ولأسرته.
فما هي أهمّ التحدّيات التي تواجه عمل الموازنة بين الحياة الأسريَّة والمهنيَّة؟ وكيف يمكن للزوجين مواجهة هذه التحدّيات والتغلُب عليها لمصلحة الأسرة؟
أولاً: لماذا يحتاج الإنسان للموازنة بين الحياة العمليَّة والعائليَّة؟
- لأنَّ الإنسان تَتكوَّن شخصيّته وحياته من عدد من المناحي الاجتماعيَّة والرُوحيَّة والعاطفيَّة والعمليَّة التي تحتاج جميعاً للتوازن والإشباع حسب أهميّتها وحيويّتها بالنسبة لكل شخص.
- ولأنَّ عدم عمل هذا التوازن بين ساعات العمل ومسؤوليَّاته، وبين العناية بالمنزل والأطفال والاستثمار في العلاقات العائليَّة هو أحد أكبر أسباب الخلافات والشجارات المنزليَّة بين الزوجين.
- لأنَّ عدم تحقيق التوازن يزيد من شعور الفرد بالضغط، ويجعله أكثر عُرضة لمشكلات الاكتئاب والقلق وزيادة التوتُّر العام، وهو ما يُقلِّل بالتبعيَّة من طاقته الإنتاجيَّة في العمل، وقدرته على تحقيق النجاحات التي يَطمح إليها.
ثانياً: التحدّيات التي تواجه الموازنة بين العمل والأسرة:
- مشكلات ضغط الوقت وما يترتَّب عليها من:
- عدم اتِّساع الوقت للمهامّ: خاصَّة لدى النساء العاملات اللاتي يقع على عاتقهن مهمَّة إعداد الطعام، وترتيب المنزل، ومتابعة دروس الأطفال، ورعايتهم، بالإضافة إلى أوقات العمل الرسميَّة، واحتياجات الزوج، والعائلة الكبيرة، وحاجة الأم لمنح نفسها بعض الوقت الخاص.
- عدم وجود وقت شخصي خاصّ: تمارس من خلاله الزوجة أو الزوج إحدى الهوايات التي يفضِّلانها، أو مشاهدة الأفلام، أو الاستمتاع ببعض الاسترخاء دون مطاردة للالتزامات المختلفة.
- غياب وقت الأسرة والوقت الحميمي للزوجين.
- الشعور الدائم بالإرهاق، وبالإحباط وبفوضى الوقت والمهامّ، مقابل عدم القدرة على الإنجاز، كأنَّه سباق دائم لا يستطيع الفرد فيه الوصول إلى نقطة النهاية مهما اجتهد وبذل جهدًا أكبر.
- غياب الدعم:
عدم وجود دوائر دعم قويَّة، تتعاون فيما بينها وتتبادل مهام الرعاية ومسؤوليّات المنزل والأطفال، وتُنيب عن الوالدين في الأوقات التي يحتاجان فيها إلى راحة قصيرة، أو إجازة سريعة. ربما يعود ذلك إلى:
- رتم الحياة المتسارع، وما تفرضه المدن المترامية الأطرف على أبنائها من صعوبة الانتقال بسبب المسافات الكبيرة وزحام الطرق وما يهدره من وقت.
- التنافسيَّة الشديدة التي تزيد منها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تشجِّع الأهالي على الانخراط في العديد من الأنشطة والمشاركة في أكثر من مجال سواء للأطفال أو لأهاليهم أيضا بشكل ضاغط على الوقت والصحَّة النفسيَّة.
- ساعات العمل الطويلة التي يغيبها الأب عن المنزل، والتي بسببها يكون غائبًا عن المشهد التربوي، وغير مشارك في مسؤوليَّات رعاية الأطفال بدرجة كبيرة.
- تطلُّب العمل الدائم وعدم مرونته:
إذا ترك الإنسان نفسه لدوَّامة العمل فإنَّها قد تبتلعه بالكامل، ولا تكتفي بأيّ عدد ساعات، وبأي مجهود مبذول. ولهذا السبب قد يَصعُب على الكثيرين السيطرة على توغُّل مهامّ العمل في حياتهم واستيلائها على ساعات بعد ساعات العمل الرسميَّة، وهو نفسه السبب الذي قد يفجِّر الكثير من الشجارات المنزليَّة.
تشير إحدى الدراسات إلى أنَّ نسبة كبيرة من الأُمّهات والآباء يضطرون للمطالبة بتعديل أوضاعهم في العمل من أجل توفير مزيد من الوقت لرعاية الأطفال، فحوالي 42% من السيِّدات العاملات يطالبن بتخفيض ساعات العمل الخاصَّة بهن لدوام جزئي، بينما 39% منهن قد يطالبن بإجازات لرعاية الطفل لعدم قدرتهن على عمل التوازن الصحِّي بين العمل والعناية بالأطفال. ولكن المدهش في هذه الدراسة أنَّ أكثر من 94% من السيِّدات اللاتي خفّضن ساعات العمل أو انقطعن عن العمل فترة من خلال الإجازات، عبّرن عن عدم شعورهن بالندم من هذا القرار على الرغم من تَسبُّبه في تأخُّر الترقّي الوظيفي الخاصّ بهنَّ مقارنة بأقرانهم.
ثالثاً: كيف يمكن تحقيق التوازن بين الحياة المهنيَّة والعائليَّة؟
- إدارة الوقت: تُعدُّ هذه هي الكلمة المفتاحيَّة السحريَّة لحلِّ معظم مشكلات الضغط الناجم عن تراكم المسؤوليّات، وتزاحم المهامّ. لا يستطيع أحد تقديم وعود بأنَّ الوقت يمكن أن يكفي كل المتطلّبات والأمنيات التي يرغب الفرد تحقيقها من خلاله، ولكن التركيز على تنظيم الوقت، وعمل روتين يومي وأسبوعي محدَّد الأهداف، ومرتَّب وواعٍ بطبيعة المهامّ المطلوبة، وما تستغرقه من وقت، والعمل على ترتيبها وتنسيقها وفقًا لأولويّتها وللوقت المتاح، كلّها مهارات من شأنِها المُساعدة على زيادة الإنجاز، وتحقيق الأهداف بدرجة أعلى، وبالتالي التقليل من الإحباط والشعور بالضغط الناجمين عن تراكم المهامّ المؤجَّلة والفشل في تنسيقها. ومن أهمِّ المهارات التي يمكن تعلُّمها في هذا الأمر:
- تحديد ساعات العمل اليوميَّة والالتزام بها، وعدم السماح لها بالتطفُّل على باقي ساعات اليوم ومسؤوليَّاته.
- كتابة المهامّ اليوميَّة والأسبوعيَّة بشكل واضح .
- عمل روتين يومي وأسبوعي يتوافق مع احتياجات أفراد الأسرة.
- ترتيب المهامّ بشكل واقعي، وعدم إدراج مهامّ صعبة أو مستحيلة التنفيذ في جدولٍ زمنيّ ضيِّق، لأنَّ هذا من شأنه زيادة الإحباط والغضب.
- تخصيص وقت للأطفال بعيدا عن المهامّ المتعلِّقة بهم، للعب والحديث والقراءة وتبادل الأخبار أو حتَّى مشاهدة فيلم جديد.
- عمل وقت خاصّ للزوجين فقط، سواء للحديث، أو لقضاء بعض الوقت الحميمي، أو لمشاركة الأفكار والمشاعر، أو تناول عشاء هادئ بعيدًا عن رتم الحياة الضاغط.
- تحديد الأولويَّات: ليس فقط على مستوى المهمَّات اليوميَّة والدوريَّة، ولكن يحتاج الفرد لأن يكون واضحًا أمامه ما هي أولويّاته في الحياة عمومًا؟ ما هو الشيء الذي يمكنه التنازل عنه، وما هي الأشياء التي لا يستطيع الاستغناء عنها أو المساومة بخُصوصها. ومن المفيد جداً مناقشة هذه الأولويَّات بالتفصيل مع (الزوج/الزوجة) من أجل الوصول إلى نظرة مشتركة واسعة لكيفيَّة إدارة الحياة الأسريَّة.
- الحفاظ على الحدود: وتعلُّم كيف تقول لا. لا لساعات العمل الإضافيَّة، ولمهمَّات العمل التي ستجور على حقِّ الأطفال والأسرة، ولا للمكالمات التليفونيَّة الطويلة التي تستنفد الطاقة والوقت، ولا للساعات الطويلة من التصفُّح الإلكتروني بلا هدف، ولأي شيء لا يندرج تحت بند الأولويَّات سابقة الذكر، ولا يعود عليها بالفائدة. ولكن الموافقة والانخراط بوعيٍ وذكاء في ما يتمّ من خلاله إنفاق الوقت والطاقة.
- تَقبُّل عدم الكمال: سواء في العمل أو المنزل، محاولات الوصول للكمال هي فخ كبير يقع فيه الإنسان. لأنَّ الإنسان ليس ماكينة، ولا جهاز آلي يعمل وفق مدخلات ومخرجات مضمونة النتائج خالية من الخطأ. ولكن الإنسان يتميَّز بمحدوديته، وبأنَّ لقدرته ومعرفته وقوّته حدود، لا بد من تقبّلها وتفهّمها والموافقة عليها، والتخلِّي عن الكمال، سواء في العمل، أو المنزل، أو مع الأطفال.
- طلب المساعدة: من دوائر الدعم القريبة من الأهل والأصدقاء، ومن الزوج، ومن الأبناء الأكبر سنًّا. لا بأس أبداً من طلب المساعدة، وعمل توكيل بالمهامّ لمن يستطيع أن ينوب فيها، لتوفير مزيد من الوقت والطاقة.
- تحديد الوقت الخاصّ على خريطة المهامّ: قد يبدو بندًا رفاهيًّا، ولكنَّه شديد الأهميَّة، إذ يقوم مقام شاحن الطاقة، التي من خلالها يستطيع الفرد مواصلة العمل والعطاء. لذا لا بد من تخصيص وقت لممارسة هواية، أو نشاط لتفريغ الضغوط سواء عن طريق ممارسة المشي، أو الرياضة بشكل عام، أو عمل تمارين التأمُّل والاسترخاء في المنزل، أو غيرها من الأنشطة التي تساعد على تخفيف الضغوط.
- نمط الحياة الصحِّي: وهو ليس كليشيه آخر، حيث إنَّ نمط الحياة الصحِّي من أكثر الأشياء التي تزيد الشعور بالإنجاز والتوازن النفسي/ الجسدي، كما أنَّه يحسِّن من مستويات الصحَّة العامَّة، ويرفع الإحساس بالرضا عن النفس.