هل يُهدِّد التلويح المستمرّ بالطلاق أمان العلاقة؟
تمرُّ كلّ الأُسَر والزيجات بمشكلات وأزمات، ويُختبَر نضج أفرادها في طريقة إدارتهم لما يواجههم من تحدِّيات في العلاقة، وكيفيَّة تعاونهم لتجاوزها بأقلِّ الخسائر على صحَّة العلاقة، وصحّتهم النفسيَّة. أحد الأنماط السلوكيَّة المتكرِّرة في بعض الأُسر، خاصَّة عند مواجهة مشكلة أو صراع بين الزوجين، هو قيام أحدهما بالتهديد بالانفصال أو الطلاق أو الرحيل، قد يقصد هذا التهديد فعلا، أو يُلوِّح به ويستخدمه فقط كآداة للضغط والابتزاز العاطفي، وقد يَعني الإشارة فعلا إلى أنَّ قدرته على الصبر والمواصلة والمحاولة قد أوشكت على الانتهاء، أو حتَّى انتهت بالكامل. فما هو تأثير الاستخدام المتكرِّر لهذا التهديد؟ وكيف يستقبله الطرف الثاني؟ وهل يؤثِّر على صحَّة العلاقة الزوجيَّة واستقرارها؟
أولاً: لماذا قد يستخدم أحد الزوجين الطلاق كسلاح تهديد في كلِّ مشكلة؟
- مشكلات في التواصل: أو عدم القدرة على التعبير عن النفس، وعدم القدرة على صياغة الأفكار والمشاعر بشكل مناسب، فيلجأ الشخص للقفز السريع على النتائج النهائيَّة المُحتملة التي قد تترتَّب على سوء التفاهم وعدم القدرة على حلِّ المشكلة.
- مشكلة لم يتمّ حلها: إذا كان التهديد مرتبط بإثارة مشكلة معيَّنة لم يستطِع الزوجان الوصول إلى مسار واضح لحلِّها، مثل بعض المشكلات الماديَّة، أو تدخُّل بعض الأشخاص في علاقة الزوجين، أو مشكلة في العلاقة الجنسيَّة غير مُعالجة، أو معاناة أحد الزوجين مع الإدمان وتَبعاته، أو عدم الشعور بالأمان والاحتواء من قبل الطرف الآخر. كلّ هذه المشكلات وغيرها إذا لم يتَّفق الزوجان على طريقة مُعالجتها، واتَّخذا نحوها خطوات واضحة قد تُفجِّر التهديد بالطلاق في كلِّ مرة تجري إثارتها.
- تحقيق المكاسب الشخصيَّة: سواء كانت هذه المكاسب ماديَّة أو نفسيَّة ومعنويَّة، قد يستخدم أحد الزوجين سلاح التهديد بالطلاق لإجبار الآخر على خَيار يرفضه، بهدف تحقيق المكسب الشخصي.
- الضغط العاطفي: واستخدام احتماليَّة الرحيل للضغط النفسي والعاطفي على الطرف الآخر، والهروب من استخدام المنطق والمناقشة الفعّالة ودراسة الموقف وخياراته لحلِّ المشكلات، واستخدام الابتزاز العاطفي عوضًا عنها.
- عدم الشعور بالتحقُّق في العلاقة: أحيانا يعاني الزوجان من مشكلة لا يستطيعان تعريفها، مثل عدم شعور أحدهما بالاحتواء، أو أنه مسموع ومرئي بشكل كافٍ، أو أنَّه في علاقة أنانيَّة لا يستطيع من خلالها تحقيق أحلامه والمضي قُدمًا في مسارات النضج النفسي والاجتماعي والعملي. هذه الأسباب كثيرًا ما لا تبدو واضحة وملموسة في زخم تفاصيل الحياة اليوميَّة ومسؤوليَّات الأسرة والأطفال المتراكمة، ولكنها قد تدفع أحد الزوجين إلى الشعور الدائم بالرغبة في الرحيل.
ثانياً: ما تأثير الاستخدام المستمرّ للتهديد بالانفصال؟
- الخوف والتوتُّر: شعور الطرف الذي يجري تهديده بالخوف والتوتُّر وعدم الإحساس بالأمان في العلاقة، وأنَّه في علاقة مُهَدَّدة وقد تصل المشكلات فيها إلى خطِّ نهاية، بدلا من البحث عن حلٍّ بنَّاء وفعلي للتحدِّيات التي تواجه الأُسرة.
- تعطيل التواصل: بسبب التوتُّر والخوف المستمرّ من التهديد، قد يتجنَّب الطرف الآخر الخوض في نقاشات جدليَّة أو موضوعات قد تثير غضب وحنق الآخر، خوفًا من الوصول إلى نفس النتيجة التي تتكرَّر كل مرَّة وهي التهديد بالطلاق، والتي في الغالب تُثير مشاعر من عدم الأمان والارتباك وعدم القدرة على التواصل الفعّال. فينتهي الأمر إمَّا بتجنَّب الخلافات والنقاشات، أو الهروب منها، أو الاستسلام فيها للشكل الذي يُرضي الطرف الثائر على حساب الآخر.
- الثقة بين الزوجين: مع الوقت تصبح الثقة بين الزوجين في منتهى الهشاشة والضعف، إذ يتساقط الشعور بالثقة في العلاقة وفي الطرف الآخر مع تكرار استخدام سلاح الانفصال عند كل مشكلة.
- عدم الشعور بالأمان: أحد أهمّ أهداف الزواج هو السكن والمودَّة والأمان والرحمة، فبالتالي قيام أحد الزوجين بالتلويح بإمكانيَّة هروبه من الشراكة الزوجيَّة وانفصاله عنها، يُزعزع الإحساس بالأمان للطرف الثاني وشعوره بالراحة في العلاقة.
- انخفاض الثقة بالنفس: إذ يُفكر الطرف المُهدَّد مع الوقت أنَّه شخص سيِّء أو به عيب أو غير جدير بالحبّ وغير كفؤ في العلاقة.
- الاضطراب النفسي: نتيجة للشعور الدائم بالضغط، والخوف الدائم من الخسارة والفقد، يصبح الطرف الآخر عُرضة للضغوط النفسيَّة وأعراضها المختلفة التي تظهر وفقًا لدرجة الصلابة أو الهشاشة النفسيَّة للفرد، فمن الممكن أن يصبح فريسة سهلة لأعراض الاكتئاب أو القلق وأحياناً لاضطراب كرب ما بعد الصدمة، كما أن أعراض الضغط النفسي قد تتحوَّل إلى أعراض جسميَّة مختلفة، مثل ارتفاع ضغط الدم أو الآم القولون، أو غيرها من الأعراض الجسميَّة ذات الخلفيَّة أو الأساس النفسي.
- الانفصال العاطفي: كواحد من ميكانيزمات الدفاع التي قد يُدافع بها الشخص عن نفسه ضدّ الضغط العاطفي، قد يلجأ البعض لإغلاق أذنه ومشاعره وتفكيره ناحية الطرف الآخر مصدر التهديد بالنسبة له. هذا التكنكيك يحمي به الشخص نفسه من الضغط المتواصل الذي قد يؤدِّي إلى الاضطراب النفسي أو الجسدي.
ثالثاً: لماذا قد يُعدُّ التهديد المتكرِّر بالطلاق نوعًا من الإساءة النفسيَّة والعاطفيَّة؟
قد لا يشعر الفرد أنَّه في علاقة مُسيئة، تَستنزفه نفسيًّا وعاطفيًّا وذهنيًّا إلا بعد وقت طويل جداً من الصراعات والتحمُّل والتجاوز عن المشكلات والتشكيك في النفس والتساؤل، إذا كان ما يتعرَّض له طبيعي وعادي، أم علامة خطر يجب الانتباه إليها. لا يُعتبر التهديد بالانفصال تصرُّفًا مُسيئًا في المُطلق، ولكن الطريقة التي يستخدمه بها أحد الأطراف، وتكرارها، وسياق المواقف التي يختار فيها هذا السلاح، هي ما تُعطي لهذا التهديد دلالته، وتُميِّز ما إذا كان طبيعيًّا أم مسيئًا. ومن العلامات التي تدقُّ ناقوس الخطر وتحوِّل هذه الآداة إلى إساءة نفسيَّة:
- التكرار المُستمرّ لاستخدام هذا السلاح في كلِّ الخلافات سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وعدم وضعها في المَوضع المناسب من حيث حجم المشكلة وصعوبة حلِّها أو التغاضي عنها.
- إذا كان الهدف من استخدام التهديد المتكرِّر هو خلق الخوف وتوليد عدم الإحساس بالأمان لدى الطرف الثاني، كأحد عوامل الردع والزجر وفرض القوَّة والسيطرة.
- استخدام التهديد بالطلاق أو الانفصال كوسيلة للضغط لتحقيق أهداف شخصيَّة أو مكاسب معيَّنة في العلاقة، مثل الضغط من أجل أسباب ماديَّة أو اتِّخاذ قرارات في اتِّجاه معيَّن تَصبُّ في مصلحة طرف واحد، أو غيرها من الأسباب.
- تميل بعض الشخصيَّات خاصَّة النرجسيَّة منها لخلق علاقة اعتماديَّة مع الطرف الآخر، يعتمد فيها على عزله نوعًا ما عن العالم الخارجي نفسيًّا واجتماعيًّا، وتقليص دائرة التواصل لتنحصر فيه وحده، فيبدأ التلاعب والتحكُّم بثقة مطمئنًّا إلى أنَّه ليس له منافسين وأن زوجه/زوجته لن يستيطع الابتعاد عنه أو الحصول على بديل عاطفي أو نفسي آخر.
- تَعمُّد كسر الثقة بالنفس، خاصَّة في حالة الأزواج الذي يعانون من شعور بالنقص، أو تكون الزوجة متفوِّقة عليهم ماديًّا أو مهنيًّا أو اجتماعيًّا. قد يلجأون لبعض طرق الضغط والابتزاز بالرحيل، لأنَّهم يريدون أن يمتلكوا زمام القوَّة والسيطرة في العلاقة، وفي الوقت نفسه يُقلِّصوا من شعور الطرف المُتفوِّق بالثقة والتعالي والتميُّز.
- التزامن مع وجود سلوكيَّات مسيئة أخرى هو أحد أهمّ علامات الخطر، التي تعني أنَّ استخدام التهديد بالانفصال ليس مجرَّد تسرُّع في الحديث، ولا فشل في إدارة لحظات الغضب والصراع، وإنَّما هو عرض من ضمن مجموعة أعراض أخرى لعلاقة مُسيئة تُنذر بالخطر وتهدِّد الصحَّة النفسيَّة لأطرافها.
رابعاً: كيف يمكن وقف الضغط الناتج عن التهديد المستمرّ بالانفصال؟
- تحديد المشكلة بشكل واضح: وما إذا كان التهديد بالانفصال هو المشكلة الوحيدة، أم كما ذكرنا أحد سلسلة من السلوكيَّات التي تتعمَّد الابتزاز والضغط والتهميش والإهانة؟ والتفكير في الدوافع الحقيقيَّة التي قد تقود شخص لاستخدام نفس الابتزاز والتهديد طوال الوقت، هل هي عدم القدرة على إدارة الغضب؟ هل فَقَد قُدرته فعلا على الاستمرار والمحاولة في بناء العلاقة الزوجيَّة؟ هل يضغط من أجل مكاسب مرجوَّة؟ الوصول إلى إجابة هو طرف خيط لا بد من إمساكه في طريق البحث عن آليَّة لوقف التأثير السلبي لهذا التهديد.
- وضع الحدود: ربما يحتاج الزوجان إلى محادثة واضحة وصارمة، يوضحان فيها قيمة الطلاق أو الانفصال بالنسبة لكلٍّ منهما، ويحدِّدان فيها سهولة الخيار بالنسبة لهما، ويوضحان خطورة الحديث عنه بكل سهولة في أي مناسبة صَغُرت أو كَبُرت. إذا كان هناك طرف يشعر بالتهديد والخطر والضغط بسبب التلويح المستمرّ بالطلاق، فلا بد من توضيح ذلك للطرف الآخر، والاتِّفاق على أنَّ الحديث في هذا الموضوع بهذا التساهل هو خطّ أحمر.
- ممارسة الاستماع الفعَّال: تدريب الزوجين معًا على ممارسة الاستماع الفعَّال، والذي يتطلَّب منهما التواصل البصري، والتعبير تفصيلًا عن وجهة نظر كل منهما ونقطته من الخلاف، واستماع الآخر له بلا أي مقاطعة بالحديث أو بالانفعال، ثمَّ تبديل الأدوار، ثم طرح الأسئلة، وخيارات الحلّ. هذا التكنيك هو أحد تكنيكات إدارة النقاشات بهدوء والتي تحاول التغلُّب على سيطرة الانفعالات على الموقف وتدميرها لكل سبل التواصل.
- طلب المساعدة المتخصِّصة: الاختصاصي النفسي من شأنه أن يساعد في تحديد المشكلة وجذورها، واستكشاف الدوافع التي تَكمُن خلف هذا السلوك المتكرِّر والذي يهدِّد أمان الأسرة. كما أنَّه يساعد الطرفين على تعلُّم تكنيكيات وآليَّات النقاش الفعَّال، وإدارة المشاعر، وتحسين جودة التواصل بشكل عام.