الصمت العقابي في الزواج؛ نهاية الحوار وبداية المشاكل

صحيح أنَّ الكلام هو وسيلة التواصل الرئيسة التي يستخدمها البشر لإدارة العلاقات على اختلافها، إلا إنَّ الصمت أيضًا هو وسيلة مهمَّة في التواصل، وفي نقل الرسائل، بل وأحيانًا في الحصول على مقاليد السلطة في العلاقات، وخاصَّة العلاقات الرومانسيَّة والزوجيَّة، وقد يستخدمها البعض كآداة للعقاب والتأديب، وغالبًا ما يلجأ لذلك الأشخاص غير المتَّزنين نفسيا، أو الذين يتميَّزون بشخصيَّة نرجسيَّة

ما هو الصمت العقابي؟

هو الامتناع عن الحديث أو التفاعل أو الردّ من قِبل الزوج أو الزوجة كآداة للعقاب، أو كردّ فعل تأديبي أو انتقامي على عدم حصوله/ حصولها على الاستجابة المرغوبة أو المُنتظرة منه، أو لعدم حصوله على الاهتمام الذي يطلبه، أو نتيجة غيرته لتوجيه الاهتمام لآخرين بيما يرى أنَّه أحقّ به من غيره. غالبًا ما تكون هذه الوسيلة في الضغط غير مُعلنة، وتكون بمثابة خَلق حالة من التجاهل واللامُبالاة تجاه الطرف الثاني للضغط عليه نفسيًّا، ممَّا يُصعب من التواصل ويَجعل الوضع كلّه في حالة من الغموض التي لا يُمكن معها النقاش أو محاولة حلّ المشكلات بشكل صحِّي. ومن أشهر علامات مُمارسة الصمت العقابي في العلاقة:

  • الحديث مع كلّ أفراد الأسرة أو الموجودين في المحيط إلا الطرف محلّ العقاب.
  • التفاعل بشكل طبيعي خلال الروتين اليومي مع تَعمُّد تجاهل وتهميش الطرف الآخر كأنَّه غير موجود، مع عدم الردّ عليه أو التجاوب أو التفاعل معه تمامًا.
  • دخول المنزل والخروج منه بدون إلقاء السلام أو تبادل التحيَّة أو أي حوار يخصُّ الأسرة كأنَّ الطرف الآخر غير موجود بالمرَّة.
  • الضغط على الطرف الثاني بشكل يزيد من شعوره بالذنب والتقصير، وأحياناً تصل إلى كره الذات.
  • عدم التفاعل مع تعرُّض الطرف الثاني للأذى أو الضغط أو الانزعاج، أو حتى تعرّضه للألم والمواقف السلبيَّة على مدار اليوم.
  • عدم الاستجابة لمحاولات النقاش والفهم أو الوصول للحل، وقد تطول فترة العقاب لمدَّة تصل إلى ساعات أو أيَّام أو حتى أسابيع، ولا تنتهي فترة الصمت العقابي إلا عندما يُقرِّر هو.

الصمت العقابي هو واحدة من الإساءات النفسيَّة التي قد تُمارس في العلاقات الزوجيَّة. مهما كانت هناك أسباب أو مُبرِّرات للغضب، فإنَّ مُمارسة الصمت العقابي تجاه الزوج/الزوجة هو تصرُّف مؤذي نفسيًّا وغير ناضج، ويتسبَّب بأذى نفسيّ كبير. 

لماذا يلجأ أحد الطرفين لاستخدام الصمت كعقاب؟

غالبا ما يلجأ لهذه الوسيلة أحد الطرفين عندما يشعر بالغضب والإحباط، ولكنَّه بدلًا من اختيار التواصل الإيجابي لحلّ المشكلات، فإنَّه يختار الصمت كآداة للهروب أو للتلاعب النفسي بالطرف الآخر، وإخضاعه والسيطرة عليه نفسيًّا وعاطفيًّا. والاستخدام المُتكرِّر لهذه الآداة هو من سمات العلاقات السامَّة، حتى ولو كانت علاقة زوجيَّة تتَّسم بالحبِّ المتبادل.

ومن أهم الأسباب الكامنة خلف استخدام الصمت العقابي:

  • الشخصيَّة النرجسيَّة: وشعورها بالتفوُّق والاستحقاق المطلق، والاعتقاد في قُدرتها على تأديب وتطويع وإخضاع المُحيطين من أجل تحقيق ذاتها، وتأكيد شعورها بالقوَّة والسلطة.
  • التلاعب بالمشاعر: الصمت العقابي يزيد من تشكُّك الطرف الآخر في نفسه، ويزيد من شعوره بالذنب والتقصير والخجل من نفسه. كلّ هذه المشاعر ربما يستخدمها الطرف الآخر للحصول على المزيد من الاهتمام والحبّ والتضحيات أو حتى من أجل مزيد من السلطة.
  • ميكانيزم دفاع: أحيانًا ما يكون بناء حاجز صدّ أمام التواصل والتفاعل مع الآخر هو أحد ميكانيزمات الدفاع التي قد تعني عدم القدرة على التعبير عن المشاعر أو عدم القدرة على إدارتها، كما أنَّها أحيانًا قد تكون نتيجة للرغبة في الهرب من مواجهات بعينها، أو حسم قضايا حسَّاسة بالنسبة للشخص، وبالتالي يلجأ لهذا التكنيك لحماية نفسه سواء بوعي أو بدون.
  • نمط التعلُّق: يميل أصحاب نمط التعلُّق التجنُّبي للابتعاد والتجنُّب في العلاقات القريبة، ولا يميلون لمشاركة مشاعرهم أو أفكارهم بشكل علني، كما أنَّ خوفهم من الألم أو الفقد أو المشكلات، يدفعهم لعدم الانخراط العاطفي بحجَّة تأمين أنفسهم وحمايَة مشاعرهم من الأذى.
  • تقليد نموذج أُسري: من الوارد جدًّا أن يميل الأبناء لتكرار نموذج الصمت العقابي، إذا كان هذا الاسلوب مُتكرِّرًا في منزل الأب والأم، وهو نمط مُعتاد بالنسبة لهم، وربَّما لا توجد لديهم خيارات سلوكيَّة أخرى في حالة الصراع أو الغضب.

ما هي الآثار النفسيَّة المُترتِّبة على مُمارسة الصمت العقابيّ في الحياة الزوجيَّة؟

  • الإحباط والغضب: تعرُّض أحد الطرفين للتهميش والتجاهل، وعدم حصوله على التواصل والتفاعل بالشكل المعتاد من الردّ والاحترام والحديث اليومي العادي، يثير لديه مشاعر الإحباط والغضب المُتراكم ناحية الطرف الآخر مهما كانت أبعاد وأسباب المشكلة بينهما، ذلك لأن الردّ والتواصل اللفظي هما من أهم علامات الاحترام المتبادل بين الأفراد، لا سيما في العلاقات شديدة القرب مثل الأزواج.
  • اتِّساع الفجوة وعدم الفهم: كثيرًا ما يقوم الأفراد الذي يمارسون الصمت العقابي بإجرائه بشكل مفاجئ، كردّ فعل في الغالب على غضب داخلي كامن، أو على كلمة في خضم حديث طويل، وبالتالي لا يكون الطرف الثاني على يقين تماما من سبب الغضب والخصام، ولا يفهم بالضبط ما هي أسباب هذا الوضع الصامت المليء بالتجاهل والتهميش، ويزداد الأمر سوءًا عندما يبدأ في التساؤل وطرح الأسئلة ولا يتلقَّى إجابات أو ردود مُفسِّرة ولا يقابل أسئلته إلا مزيد من الصمت العقابي، فهنا تتَّسع الفجوة بين الزوجين وتسيطر سحابة سوداء كبيرة من عدم الفهم. 
  • انخفاض تقدير الذات: مع تكرار ممارسة الصمت العقابي كأحد أدوات التواصل بين الزوجين، فإنَّ الطرف الذي يُمَارس ضدّه التجاهل يشعر مع الوقت أنَّه لا يستحقّ التواصل الجيِّد، وقد يبدأ في التفكير أنَّه شخص سيء، ومع الوقت فإنَّ هذا الإجراء قد يؤدِّي إلى انخفاض الثقة بالنفس، وانخفاض الشعور بالاستحقاق للحبّ والتقدير والاحترام في العلاقة.
  • القلق والاكتئاب: نتيجة لإحساس الفرد أنَّه متروك للأفكار المتطايرة وأنَّ عليه التنبُّؤ بأسباب هذا الخصام، والبحث اللانهائي عن طرق للتفاهم والصلح، والبحث عن طرق لإرجاع التواصل وحلّ المشكلات. كلّ هذا يُشكِّل ضغطًا نفسيًّا كبيرًا تكراره قد يؤدِّي إلى القلق والاكتئاب. 

كيف يمكن التعامل مع الصمت العقابي؟

  • الحفاظ على الحدود: التأكيد على الحدود هو أمر صحِّي للحفاظ على العلاقات. صحيح أنَّ الطرف الذي يُمارس الصمت العقابيّ مُخطئ في حقِّ الآخر ومُسيء بعدم تواصله الواضح والصريح، ولكن الطرف المُتلقِّي أيضاً يقع على عاتقه عِبء حماية حدوده، والحفاظ عليها. لذا لا بدّ من الحديث الواضح الصريح عن الطرق المقبولة وغير المقبولة في التواصل خلال العلاقة.
  • التقييم المُنصِف للمواقف: أحيانًا قد يكون الصمت نتيجة لموقف غير مُنصف في الخلافات، وتَرَفُّع أو تَكَبُّر أحد الطرفين عن الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. لذلك فإنَّ فلسفة الاعتذار لا بد أن تكون إحدى قواعد الأسرة من أجل علاقات صحيَّة وسويَّة بين أفرادها.
  • التعبير عن المشاعر: سواء المشاعر الأصليَّة سبب المشكلة أو الخلاف الزوجي، أو مشاعر الانزعاج الناتجة عن التعرُّض للصمت العقابي. من المهمّ في كل الحالات أن يحظى كلا الزوجين بمساحة آمنة للتعبير عن مشاعره، وأن تحظى هذه المشاعر بالاحترام والتفهُّم.
  • التواصل المفتوح: يفضِّل كثير من الأزواج تجاوز المشكلات دون حديث صريح عنها، وأحيانًا قد تتكرَّر لديهم نفس الخلافات بدون محاولة لإيجاد حلٍّ مُرضي ومريح للطرفين، وبالتالي يدخلون في دائرة لا نهائيَّة من اشتعال شرارة الخلاف فالاحتدام حوله، ثمَّ اختيار أحد الطرفين للصمت العقابي، وتوتُّر الطرف الثاني وشعوره بالانزعاج وربَّما محاولاته لكسر الجليد، وهكذا. لذا فالحلّ الأمثل هو التواصل المفتوح والصريح حول الموضوعات المُثيرة للانزعاج في الحياة الزوجيَّة.
  • التواصل مع متخصِّص نفسي: التعرُّض للصمت العقابي هو إحدى الإساءات أو الضغوط النفسيَّة التي قد يتعرَّض لها الأفراد في العلاقات. إذا لم يستطع الزوجان السيطرة على هذا الأمر وكان تكراره يصل إلى حدٍّ ضاغط ومزعج وعبء على أطراف العلاقة، فإنَّ اللجوء لاختصاصي نفسيّ قد يكون فكرة جيِّدة. حيث يساعد على تعليم الزوجين طرق تواصل أكثر فعّاليَّة، كما أنَّه قد يلجأ لتكنيكات مُختلفة من العلاج النفسي تُساعد الطرف الذي يمارس الصمت العقابي على التعرُّف على العوامل الكامنة خلف الغضب، ونقاط الاستثارة التي تدفعه لتكرار هذا النمط السلوكي، وكيفيَّة تعديله أو تغييره واستبداله بطرق أكثر فعاّليَّة للتعبير عن المشاعر، وطرق صحيَّة أكثر للتواصل وحلّ المشكلات.

اظهر المزيد

أية خالد

إخصائية نفسية حاصلة ليسانس الآداب قسم علم النفس بجامعة القاهرة، وعلى الماجستير في علم النفس الإكلينيكي، وكاتبة محتوى مهتمة برفع الوعي بالصحة النفسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى