الأزمات الإنسانيَّة وتبعاتها على الفتيات: تزويج القاصرات نموذجًا

تبرز الأزمات الإنسانيَّة كتحدٍّ إضافي يفاقم من هشاشة الأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة للفتيات الناجيات منها وأسرهن. فخلال الكوارث الإنسانيَّة، سواء كانت نتيجة الحروب والمجازر أو الكوارث الطبيعيَّة أو الأزمات الاقتصاديَّة وغيرها، تتزايد ضغوط الأسر، ما يدفعها في كثير من الأحيان إلى اتِّخاذ قرارات تُلحق أضرارًا جسيمة بالفتيات؛ أبرزها تزويج القاصرات، الذي يُنظر إليه في بعض المجتمعات، على أنَّه حلّ لمواجهة الفقر وضمان حماية الفتاة من أخطار الواقع المضطرب.
الجدير بالذكر أنَّ هذا الحلّ الظاهري لا شك في أنَّه يخفي وراءه تبعات جسيمة على الفتيات، إذ يحرمهنَّ من التعليم، ويعرِّضهنَّ لمخاطر قد تمتدُّ آثارها على الصحَّة البدنيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة تنعكس عليهنَّ على المدى البعيد، ممَّا يُفاقم من أزمة التحدِّيات التي تواجههن في السعي لتحقيق مستقبل أفضل.
في هذا المقال نناقش دراسة علميَّة أُجريت على الفتيات في الأردن بعنوان: زواج الأطفال في الأزمات الإنسانيَّة، من إعداد مؤسَّسة إنقاذ الطفل ومنظّمة بلان انترناشونال لعام 2021 تطرَّقت من خلاله بالحديث عن عوامل الخطر والحماية، واتِّخاذ القرار والحلول من وجهة نظر أولياء الأمور والفتيات.
دوافع وأسباب تعرُّض الفتيات لخطر التزويج المبكِّر:
قارنت الدراسة بين دوافع تزويج الفتيات اللاجئات في كل من الأردن وأوغندا، وهي مقارنة ذات أهميَّة في تسليط الضوء على الظروف والبيئات المجتمعيَّة المختلفة، التي تدفع أولياء الأمور إلى اتِّخاذ هذا القرار، ومع ذلك كان من الأجدر أن تركِّز الدراسة على تحليل هذه الظاهرة في دولة واحدة بشكل منفرد للوصول إلى نتائج أكثر دقَّة وعمقًا، ويجعلها قابلة للتفسير والمعالجة بشكل أكثر فعاليَّة. خاصَّة وأنَّ الثقافة العربيَّة تختلف كثيرًا عن ثقافة المجتمعات الإفريقيَّة. ما يؤثِّر بشكل جوهري على دوافع هذا السلوك، بالتالي فإنَّ محاولة دراسة الظاهرة في سياقات متباينة قد تُضعف من إمكانيَّة فهم جذورها الحقيقيَّة ومعالجتها بفعاليَّة ضمن إطار محدَّد ومتكامل.
ومن هذا المنطلق سنحدِّد في مناقشتنا حول مسألة اللاجئين في الأردن، وبحسب ما أظهرته الدراسة، فإنَّ دوافع تعرُّض الفتيات لخطر التزويج المبكِّر تنوَّعت من وجهة نظر الفتيات وأولياء أمورهم:
على مستوى الفتاة:
أظهرت الدراسة أنَّ من أبرز الدوافع وراء تزويج القُصَّر، هو رفضهنَّ الاستمرار في الدراسة، أو رسوبهنَّ المتكرِّر في الصفوف ما يشعرهنَّ بالإحباط، بالإضافة إلى مواقفهنَّ الإيجابيَّة تجاه الزواج، ويعدّ هذا الأمر نتيجة طبيعيَّة لموروثات اجتماعيَّة وثقافيَّة، فغالباً ما يتأثَّرنَّ بنماذج عائليَّة واجتماعيَّة محيطة، حيث يكون الأهل أنفسهم قد تزوَّجوا في سنِّ مبكرة أو أقرباؤهن ما يعزِّز لديهنَّ القناعة بعدم وجود مشكلة في تكرار هذا النمط. علاوة على ذلك فإنَّ رؤية الفتيات في محيطهنَّ الاجتماعي لأقرانهنَّ يتزوَّجنَ، ويتمّ الاحتفال بهنَّ، يرسِّخ لديهنَّ فكرة أن الزواج هو الخطوة الطبيعيَّة التالية، ويصوِّر لهنَّ أنَّه مصدر للفرح والرضا. هذا الشعور الذي يتعزِّز مع وصولهن إلى سنِّ البلوغ، حيث تبدأ العديد منهنَّ بالاعتقاد، أنَّهنَّ مستعدَّات لتحمُّل مسؤوليَّات الزواج، خاصَّة إذا كنَّ قد اعتدنَ منذ الصغر على أداء الأعمال المنزليَّة ورعاية إخوتهم الأصغر. ما يجعل الزواج يبدو وكأنَّه خيار منطقي ومقبول من وجهة نظرهن، ولا يعتبرنه مبكِّرًا، رغم كلَّ ما يحمله من تبعات خطيرة على حياتهنَّ المستقبليَّة.
على مستوى العائلة:
يتصدَّر الوضع الاقتصادي المتدنِّي كأحد أبرز الدوافع التي تضع العائلات اللاجئة في الأردن في حتميَّة تزويج بناتهم القصَّر، حيث تجد الأسر نفسها في مواجهة ضغوط ماليَّة خانقة، تُجبرها على اتِّخاذ هذا القرار كوسيلة لتخفيف الأعباء، يُنظر إلى تزويج الفتيات في هذه الحالات على أنَّه حلّ لتلبية احتياجاتهن الماديَّة وإعفائهم من مسؤوليَّة الإنفاق عليهن والاعتناء بهن. كما أنَّ بعض العائلات تستفيد من زواج بناتهنَّ، بالحصول على المهور التي تعتبر دعمًا ماليًّا قد يساهم في تخفيف وطأة الفقر على الأسرة. يمكن القول عندها إنَّ هذا الحل المؤقَّت تمتدّ آثاره على مدى حياة الفتاة.
قرار الزواج مسؤوليَّة مَن؟ مَن يتَّخذ القرار؟
الحقيقة أنَّ النتائج جاءت عكس التوقّعات الشائعة، حيث أظهرت أنَّ بعض الفتيات يملكن حريَّة اختيار مَن ومتى يتزوّجن، مع بقاء القرار النهائي مشروطاً بموافقة أولياء الأمور، الذين قد يرفضون أو يقبلون هذا الاختيار بناءً على اعتباراتهم الخاصَّة. ومع ذلك إذا شعر الأهل أنَّ ابنتهم قد وصلت إلى سنٍّ يعتبره المجتمع “متأخِّرًا” للزواج، فإنَّهم غالباً ما يلجؤون إلى إقناعها حول “ما يخبِّئه المستقبل” كوسيلة لتوجيه قرارها. مع ترك القرار النهائي للفتاة. من جهة أخرى، كشفت الدراسة أنَّ شريحة كبيرة من الفتيات، لا يملكن أي رأي حقيقي في اتِّخاذ قرار الزواج، بل يتعرَّضن للضغط، أو حتى الإكراه من قبل أسرهن.
تزويج القاصرات: وأثره على الفتاة والأسرة
من وجهة نظر الفتيات وعائلاتهنَّ، توصَّلت الدراسة لوجود عدد من الفوائد لزواج الفتيات القاصرات وهي؛ الإنجاب وتكوين أسرة، والهروب من وضع منزلي صعب، الذي يعتبر تنازلًا عن حقهنَّ في العيش بكرامة ضمن بيئة آمنة وداعمة، ثمَّ إنَّ الزواج في هذه الحالة ليس سوى انتقال من وضع مأساوي إلى وضع آخر أكثر قسوة، إذ تجد الفتيات أنفسهن يحملنَ مسؤوليَّات تفوق أعمارهن وقدراتهن العاطفيَّة أو الجسديَّة أو النفسيَّة.
بالإضافة إلى ضمان تأمين الاحتياجات الماديَّة للفتيات، الذي يشكِّل صورة من صور غياب العدالة الاجتماعيَّة التي يجب أن توفَّر للفتيات وأسرهنّ سبل العيش الكريم دون الحاجة للتضحيَّة بمستقبل الفتاة وحرّيّتها. كما أشارت إلى فائدة إرضاء الوالدين وتجنُّب وصمة العار، وهنا يجدر التأكيد على أنَّ مؤسَّسة الزواج معقودة بميثاق غليظ، لا يمكن أن تتمّ سوى بقبول تامّ وقناعة من الطرفين الزوج والزوجة. وإذا ما قامت هذه المؤسَّسة على المظاهر الشكليَّة لإرضاء الوالدين، فمصيرها الفشل حتمًا، لأنَّ رضاهم يكمن في برّهم وطاعتهم في الأمور التي تخصّهم أو تؤثِّر على حياتهم، وليس في القرارات المصيريَّة التي ترتبط بالفتاة ومستقبلها مثل مسألة الزواج، فهي شراكة طويلة الأمد تقوم على الألفة والمحبَّة والاحترام المتبادل، ولا يمكن أن تُبنى على إرضاء الآخرين، حتى لو كانوا الوالدين، وإلّا فإنَّ هذه العلاقة تصبح عرضة للاضطرابات والمشاكل، لأنَّ الأساس الذي قامت عليه غير مستقر. كيف يمكن لعلاقة أن تنجح إذا لم تبدأ برغبة وقناعة من الطرفين؟
ولكن الحقيقة التي يجب التأكيد عليها، هي أنَّ ما يُنظر إليه على أنَّه “ميزات”، هو في جوهره قمَّة الظلم والاضطهاد، وزيادة على القهر الذي تعيشه هؤلاء الفتيات في بيوت عائلاتهن.
أمَّا بالنسبة لما أظهرته الدراسة حول مساوئ تزويج القاصرات، فقد أشارت الفتيات إلى مجموعة من التحدّيات التي تترتَّب على هذه الممارسة، أبرزها سوء معاملة الأزواج، حيث يجدن أنفسهن غالباً في علاقات غير متوازنة تفتقر إلى الاحترام. كما أبدين عدم قدرتهن على تحمُّل الأعباء المنزليَّة التي تُفرض عليهن في سنٍّ مبكِّرة، حيث يُطلب منهنَّ القيام بمهام تفوق قدراتهنَّ الجسديَّة والنفسيَّة.
إجهاد الحمل والولادة كان أيضاً من بين أبرز المآسي التي تعانيها القاصرات، حيث يتعرَّضنَّ لمخاطر صحيَّة كبيرة، نتيجة عدم جاهزيَّة أجسادهنَّ لهذه المسؤوليات، ممَّا يؤثِّر على صحّتهن الجسديَّة والنفسيَّة على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك يحرمهنَّ الزواج المبكِّر من فرصة إكمال تعليمهنّ، وهو ما يحدّ من قدرتهنّ على بناء حياة مهنيَّة، وتحقيق الاستقرار المالي.
حاجة الفتيات اللاجئات للصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة
انطلاقًا من مبدأ أنَّ الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، تعدُّ مطلبًا أساسيًّا وجزءًا من حقوق الإنسان المنصوص عليها عالميًّا، أكَّدت الدراسة على الحاجة الملحَّة للفتيات للحصول على خدمات الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة من المرافق الطبيَّة المختلفة مثل: المراكز الصحيَّة المنتشرة في محافظات المملكة، والمستشفيات، وعيادات تنظيم الأسرة، ومع ذلك فإنَّ الفتيات يواجهن العديد من التحدِّيات التي تعيق استفادتهنّ من هذه الخدمات بشكل كامل. أبرزها هو الافتقار إلى الوعي حول الأماكن التي يجب التوجُّه إليها للحصول على المعلومات والخدمات المتعلِّقة بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، الأمر الذي يجعل الكثير من الفتيات غير قادرات على اتِّخاذ الخطوة الأولى نحو طلب الرعاية الصحيَّة، ممَّا يزيد من هشاشتهن في التعامل مع مشكلات الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة.
إلى جانب ذلك، يلعب الخوف والخجل دورًا رئيسًا في منع الفتيات من محاولة البحث عن هذه الأماكن أو الاستفادة من خدماتها. هذه المشاعر، غالبًا ما تكون نتاجًا للوصمة الاجتماعيَّة المرتبطة بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، والتي تجعل مناقشة هذه المواضيع، أو البحث عن حلول لها، أمرًا محاطًا بالخوف من الحكم المجتمعي أو العار.
المصدر:
فريسيرو، ج.، تايلور، أ. (2021). زواج الأطفال في الأزمات الإنسانيَّة: الفتيات والآباء يجاهرون بالحديث عن عوامل الخطر والحمايَّة، واتخاذ القرار، والحلول. مركز حقوق الإنسان، مؤسسة إنقاذ الطفل، بلان إنترناشونال، ومركز المعلومات والبحوث – مؤسسة الملك الحسين.