الصحَّة الإنجابيَّة للنساء في الحروب والكوارث؛ العدوان على غزَّة نموذجًا
- الصحَّة الإنجابيَّة للسيِّدات في غزَّة .. إشاراتٌ إحصائيَّة
- مظاهر معاناة السيِّدات في غزَّة على مدارِ عقدٍ من الزمن
- الاحتياجات المسكوت عنها للنِّساء في قطاع غزَّة
- العدالة الإنجابيَّة والتهديدات الديموغرافيَّة
- جانب من شهادات السيِّدات في قطاع غزَّة
- أهمِّيَّة حماية الهيئات المجتمعيَّة المعنيَّة بشأن صحَّة الأُسرة
في الوقت الذي تترك فيه الحروب والكوارث تداعياتها القاسية على صحَّة الأفراد، يأتي تردِّي الصحَّة الإنجابيَّة للنساء على رأس قائمة المُخلَّفات الصحِّيَّة والنفسيَّة للنزاعات العالميَّة، وفي ظلِّ تفاقم الأزمة الإنسانيَّة في غزَّة، وخاصَّةً مع نفاد الوقود والمياه والغذاء والإمدادات الطبيَّة المُنقِذة للحياة، باتَ تسليطُ الضوء على النظام الصحِّي المنهار في القطاع، وتداعياته السلبيَّة على الصحَّة الإنجابيَّة للسيِّدات في هذه المرحلة ضرورةً لا بُدَّ منها.
الصحَّة الإنجابيَّة للسيِّدات في غزَّة .. إشاراتٌ إحصائيَّة
تُشيرُ الإحصائيَّات إلى أنَّه من بين عدد سكَّان قطاع غزَّة البالغ عددهم حوالي 2.2 مليون نسمة، هناك واحدة من أصل 4 نساء وفتيات في سنِّ الزواج والإنجاب، إي حوالي 572,000 سيِّدة تقريبًا ممَّن يحتجن الحصول على الخدمات الصحيَّة النسائيَّة، بالإضافة إلى ما يقدَّر بنحو 50,000 سيِّدة حامل، وكذلك 5,500 سيِّدة على مشارف الولادة شهريًّا. (1)
كما تُشيرُ الإحصائيَّات ذاتها إلى وجود ما يقرب من 840 سيِّدة ممَّن يعانين من مضاعفات الحمل والولادة على مستوى القطاع في ظلِّ الأوضاع الحاليَّة، وخاصَّةً في ظلِّ افتقادهن لعمليَّات الولادة الآمنة، نتيجة اكتظاظ المشافي بضحايا العدوان الإسرائيلي، أو نفاد الوقود اللازم لتشغيل مولِّدات المستشفيات، أو بسبب نقص الأدوية والإمدادات الأساسيَّة اللازمة لحالات الولادة الطارئة. (1)
مظاهر معاناة السيِّدات في غزَّة على مدارِ عقدٍ من الزمن
لم تبدأ الأزمة الإنسانيَّة للسيِّدات في غزَّة مع إعلان الحرب في تشرين الأوَّل، وإنَّما هي أزمة إنسانيَّة طويلة الأمَد، بدأت بوادرها مع بداية الحصار قبل أكثر من عقدٍ من الزمن، وخلالها اختلَّت مُعظم الموازين الاقتصاديَّة والصحّيَّة والاجتماعيَّة، وبات الحصول على القدر الكافي من الرعاية الصحيَّة للسيِّدات، وتحديدًا الصحَّة الإنجابيَّة أمرًا بالغ الصعوبة. (2)
وتجدُر الإشارة إلى افتقار حوالي 94,000 سيِّدةً فلسطينيَّة إلى إمكانيَّة الوصول إلى خدمات الصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة طوال مرحلة ما قبل العدوان الأخير على قطاع غزَّة، وذلك وفقًا لما أفاد به صندوق الأُمم المتَّحدة للسكَّان، (2) وتتمثَّل أبرز مظاهر هذا القصور الصحِّي فيما يلي:
- افتقاد الرعاية الصحِّيَّة الأساسيَّة:
نتيجة العدوان الممنهج المستمرّ، تعرَّضت العديد من المرافق الطبِّيَّة إلى القصف والتدمير، ممَّا أدَّى إلى توقُّف 26 مستشفى و55 مركزًا طبيًّا عن العمل، الأمر الذي ترك آثارًا مباشرة – ومميتة في كثير من الأحيان – على الصحَّة الإنجابيَّة للسيِّدات. (2)
وتُشير التقارير إلى ارتفاع مضاعفات الولادة لدى النساء في غزَّة بنسبةٍ تتجاوز 15% تقريبًا في ظلِّ الظروف الحاليَّة، وتتمثَّل أبرز هذه المضاعفات في حالات الإجهاض الناجم عن الإجهاد، وولادة جنينٍ ميِّت، والولادات المبكِّرة، زيادة الوفيَّات والأمراض بين الأُمّهات والرُّضَّع. (2)
- مخاطر تفشِّي الأمراض والعدوى:
في ظلِّ صعوبة الوصول إلى المستشفيات، ونقص الموارد الطبيَّة، والنزوح المستمرّ بين مدن القطاع، اضطرَّت الكثير من السيِّدات الحوامل إلى الولادة في مراكز الإيواء المكتظَّة باللاجئين، وربَّما في السيارات والطُرق والمدارس والمباني غير المُجهَّزة والمفتقرة إلى أبسط وسائل النظافة، الأمر الذي ساهم بصورةٍ ملحوظة في تفاقم مخاطر العدوى وتفشِّي الأمراض البكتيريَّة والفطريَّة الناتجة عن ضعف التعقيم. (2)
- سوء التغذية المُهدِّد لحياة الأُمَّهات والأطفال:
لم تقتصر استراتيجيَّات العدوان الغاشم على الآليَّات العسكريَّة فحسب، وإنَّما استخدم العدو نهج تجويع المدنيِّين منذ اليوم الأوَّل للحرب، على الرغم من المُعارضة المستمرَّة للهيئات الأُمميَّة ومجلس الأمن، وهي إحدى أصعب الأسلحة في هذه الحرب. (2)
وفي ظلِّ تناقص إمكانيَّة الحصول على الماء والغذاء يومًا بعد يوم، باتت الأُمَّهات يواجهن تحدِّيات شديدة في إنتاج ما يكفي من الحليب للرضاعة الطبيعيَّة، فضلًا عن توفير الرِّعاية لأسرهن، مع زيادة مخاطر سوء التغذية والجفاف وخطر الوفيَّات النفاسيَّة، ممَّا يجبر النساء الحوامل على اتِّخاذ خيارات قاسية وتعريض صحّتهن وصحَّة أطفالهن – الذين لم يولدوا بعد ــ للخطر من أجل البقاء على قيد الحياة. (2)
- الآثار النفسيَّة للعدوان:
على مدار ما يزيد على عقدٍ من الزمن، لم تزل الأعمال العدائيَّة تجاه المدنيِّين تعيثُ فسادًا في الصحَّة النفسيَّة للسيِّدات الفلسطينيَّات، ورسَّخ بداخلهن المخاوف المتزايدة من الإنجاب؛ خوفًا من فقدان أطفالهن على يد العدوان، أو فقدان حياتهن أثناء الولادة نتيجةً للظروف الصحِّيَّة القاسية التي يعاني منها القطاع الصحِّي في المدينة المنكوبة. (2)
الاحتياجات المسكوت عنها للنِّساء في قطاع غزَّة
في ظلِّ تسليط الضوء على الإمدادات الغذائيَّة بصفتها الاحتياج الأبرز لسكَّان القطاع المُحاصَر والمنكوب، إلا أنَّ احتياجات الرعاية النسائيَّة تُعدُّ من بين الاحتياجات التي لا تحظى بتسليط الضوء الكافي عليها منذ بدء النزاع، على الرغم من أهميِّتها البالغة وحساسيّتها الشديدة، وتشمل أبرز هذه الاحتياجات: (2)
- الفوط الصحّيَّة: في ظلِّ فقر الموارد والإمكانيَّات وتركيز الاهتمام على الحصول على الاحتياجات الأساسيَّة، باتَ الحصول على وسائل العناية الشخصيَّة أثناء الدورة الشهريَّة أمرًا بالغ الصعوبة، مثل الفوط الصحيَّة، السدادات القطنيَّة، ممَّا قد يضطرّهن إلى استخدام حبوب تأخير الدورة الشهريَّة، والتي من شأنها أن تحمل الكثير من التأثيرات السلبيَّة بالغة الخطورة. (2)
- وسائل منع الحمل: تفتقد العديد من السيِّدات في ظلِّ ظروف الحرب إلى امتلاك وسائل منع الحمل الدوائيَّة والفيزيائيَّة والهرمونيَّة، ممَا قد يؤدِّي إلى حصول الحمل غير المقصود، الأمر الذي يؤثِّر بدوره على صحَّة المرأة والجنين وربَّما يشكِّلُ خطرًا على حياتهم في ظلِّ ظروف العدوان. (2)
- العلاجات الدوائيَّة: في ظلِّ تزايد حالات الحمل بين سيِّدات القطاع، تتفاقم مصاعب الوصول إلى المُثبِّتات مثل عقار البروجستيرون والمكمِّلات الغذائيَّة وأدوية الحمل المُختلفة، الأمر الذي يعرِّض صحَّة الأُمّ والجنين للخطر. (4)
اقرأ أيضًا: النطف المهرَّبة عبر السجون
العدالة الإنجابيَّة والتهديدات الديموغرافيَّة
في ظلِّ تفاخر أصحاب الأرض المُستمرّ بارتفاع معدَّلات الخصوبة الفلسطينيَّة، وحديث العديد من الدراسات والتقارير حول هذه المسألة، اعتبر العدو الأمر خطرًا ديموغرافيًّا واضحًا يُهدِّد أمن الكيان وخططه في البقاء والتمدُّد الاستيطاني، ممَّا دفعهم إلى انتهاج سياسات تحدُّ من النموّ السكَّاني لأصحاب الأرض. (2)
وقد حذَّرت ريم السالم مسؤولة ملف العنف ضدّ النساء في الأمم المتَّحدة، من أنَّ العنف الإنجابي المستمرّ الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضدّ النساء الفلسطينيَّات وحديثي الولادة والرضَّع والأطفال، قد يُصنَّف ضمن إطار أعمال إبادة جماعيَّة بموجب المادَّة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة. (2)
جانب من شهادات السيِّدات في قطاع غزَّة
عبَّرت العديد من السيِّدات في قطاع غزَّة عن مُعاناتهن وغيرهن مع الخدمات الصحيَّة الإنجابيَّة. تصفُ الدكتورة ملك الصعوبات التي تُواجِهُها السيِّدات في غزَّة فتقول: ” في غزَّة نفتقد العديد من الأدوية الهرمونيَّة التي تحتاجها السيِّدات لتثبيت الحمل، مثل أدوية هرمون البروجسترون، بالإضافة إلى أنَّ هذه الأدوية عادةً ما تحتاج إلى إرشادات نقلٍ وتخزينٍ خاصَّة.” (3)
وتُضيف الدكتورة ملك: ” لديَّ مريضات حوامل مصابات بالصرع وليس بإمكاننا الحصول على حقن البروجسترون المُثبِّتة للحمل وحقن أخرى من مصر، والنقل من مصر إلى هنا سيِّء للغاية. تستغرق الشاحنات وقتًا طويلاً، ولا توجد إرشادات سليمة للحفظ أو النقل، لذلك لا أثق في الكثير من الأدوية التي تصل إلينا”. (3)
وفي الإطار ذاته، تحكي زينب عمر النازحة الفلسطينيَّة من مدينة رفح، والتي أمضت عدَّة أيَّام تبحث عن الفوط الصحيَّة فتقول: “نزحتُ من منزلي في مدينة غزَّة إلى رفح دون أن أتمكَّن من أخذ أيِّ شيءٍ معي، وناضلت من أجل العيش، وتعاملتُ مع كلِّ الظروف القاسية التي واجهتنا”. (4)
ولم تكن زينب تعلم أنَّها ستواجه رحلة عذاب جديدة، إذ تضطرُّ للبحث اليائس عن الفوط الصحِّيَّة مع اقتراب دورتها الشهريَّة، وتستكمل حديثها قائلةً: “لم أستعدّ لمثل هذه الظروف، فقد جاءت دورتي الشهريَّة، ولم يكن لدي أي من أدوات النظافة الشخصيَّة، وبحثنا طويلًا عن الفوط الصحيَّة دون جدوى، ممَّا اضطرَّني إلى الاستغناء عن حجاب الرأس وتقطيعه إلى ثلاث قطع، ومن ثمّ استعماله كبديل للفوط الصحيَّة، مع غسلهِ مرارًا”. (4)
اقرأ أيضًا: الحمل اللاجنيني أو كيس الحمل الفارغ
أهمِّيَّة حماية الهيئات المجتمعيَّة المعنيَّة بشأن صحَّة الأُسرة
في ظلِّ الغارات الجويَّة التي تستهدف القطاع، بات الإبقاء على دور الجمعيَّات المحليَّة المُهتمَّة بشؤون الأُسَر وصحَّة السيِّدات أمرًا بالغ الصعوبة، فنتيجةً للعدوان الأخير على القطاع، قُصِفَت مقار جمعيَّة تنظيم وحماية الأُسرة الفلسطينيَّة (PFPPA)، وهي جمعيَّة محليَّة تشغل عضويَّة الاتِّحاد الدولي لتنظيم الأُسرة، كما هو الحال مع غيرها من الجمعيات المحليَّة، الأمر الذي ساهم في انحسار الدور المجتمعي للجمعيَّات في تقديم الدعم والرعاية الصحيَّة للسيِّدات في القطاع، والذي هو في الأساس دورٌ محدود نتيجة ما فرضته ظروف الحرب والحصار والتضييق والاستهدافات المتكرِّرة. (2)
وفي هذا الصدد يجدر بنا التركيز على إيصال الأصوات الداعية إلى حماية مقار الجمعيَّات المحليَّة، جنبًا إلى جنب مع المرافق الطبيَّة، من أجل الإبقاء على النذر اليسير الذي تُقدِّمه هذه المؤسَّسات للسيِّدات المُحاصَرات في القطاع. (2)