العلاقات العابرة للثقافات؛ التحدِّيات والفوائد

اقرأ في هذا المقال
  • التحدِّيات التي تواجه الزواج العابر للثقافات
  • ما هي إيجابيات الزواج العابر للثقافات؟
  • كيف يمكن تحقيق التكيُّف والتغلُّب على عقبات العلاقات العابرة للثقافات؟ 

بعد ما أصبح العالم قرية صغيرة، لم تتجاوز العلاقات فقط حدود المجتمع الضيِّقة، بل تجاوزت حدود الجغرافيا، واللُّغة، والثقافة، فأصبحنا نرى الزواجات من جنسيتين مُختلفتين أمرًا شديد العاديَّة، يختلفان في البلد، وفي الخلفيَّات الاجتماعيَّة والثقافيَّة، وفي اللُّغة، وأحيانًا الدين، ولكن يجمعهما الحبّ، كلغة مشتركة يبدآ منها معًا تواصلًا أبديًّا ورباطًا مقدَّسًا. 

فما هي التحدِّيات المُحتملة في العلاقات العابرة للثقافات؟ وهل لها فؤائد أو مَردود إيجابي على الأفراد والأُسر؟ وكيف يُمكن التكيُّف مع هذه التحدِّيات والتعامل معها وتجاوزها؟

التحدِّيات التي تواجه الزواج العابر للثقافات

  1. الفجوة اللُّغويَّة: اللُّغة المنطوقة هي طريقة التواصل الأولى والأساسيَّة التي يتواصل بها البشر مع بعضهم، لكن اللُّغة لا تَعني فقط اللغة المنطوقة والكلمات المضبوطة في المعاني والمرادفات، ولكنَّها تحمل أيضًا ما وراء الكلام، وإيحاءاته، وإشاراته وخلفيَّاته الثقافيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة. لذا فإنَّه حتى في حال تحدُّث أحد الزوجين لغة الآخر بطلاقة، أو حتَّى كانا يتحدّثان نفس اللغة لكن من جنسيتين مختلفتين فإنَّه هناك فجوة لُغويَّة تظلُّ موجودة لفترة من الزمن قد تطول أو تقصر، لأنَّ خلفيَّة اللغة مختلفة وبالتالي ما تحمله من دلالات. تظهر هذه الفجوة بقوَّة مثلا في المزاح، والنكات، ما يضحك عليه أبناء الثقافة الواحدة، قد لا يكون مضحكًا أبدا لغيرهم، حتَّى مع فهمهم اللُّغة ومعاني الكلمات، لكن الأمر يحتاج إلى فهمٍ لعمق اللُّغة وروحها وأبعاد دلالاتها الاجتماعيَّة والثقافيَّة أيضًا. ومن الآثار السلبيَّة للفجوة اللُّغويَّة بين الزوجين:
  • سوء التفاهم الناتج عن سوء الفهم، أو عدم إدراك المعنى الحقيقي المقصود من الكلام.
  • الإحباط وعدم الشعور بالراحة في التواصل.
  • الشعور بالغربة أو الوحدة خاصَّة في التجمُّعات التي يتحدَّث فيها الأغلبيَّة لغة واحدة، لا يفهمها أحد الأطراف فيشعر بالغربة أو حتَّى بأنَّ الحديث ربما يكون عليه هو شخصيًّا.
  • الملل والإرهاق المتُراكم من محاولات الشرح والترجمة التي يبذلها كل طرف لإيصال فكرته ومشاعره للآخر.
  1. الخلاف حول التفاصيل اليوميَّة: كل التفاصيل اليوميَّة من ممارسات وعادات وسلوكيَّات مهما بدت بسيطة، هي في الحقيقة وليدة الثقافة والمجتمع، لذا فالمُعايشة اليوميَّة والوثيقة مثل الحياة الزوجيَّة لزوجين من جنسيتين مختلفتين ومنشأ و ثقافة وعادات مختلفة، هي تحدٍّ قد يبدو بسيطًا، ولكنَّه في الحقيقة يحمل أبسط الخلافات المُمكنة والتي قد تتحوَّل إلى إحباط مُتراكم أو حتى صراع في نهاية الأمر. ومن أمثلة هذه التفاصيل:
  • عادات الأكل: لكلِّ ثقافة عاداتها في الوجبات، أصنافها، وترتيب التقديم، والجلوس، وإتيكيت الضيافة والتناول، بل وحتى طعم الأكل، وتوابله وطريقة تسويته. هذا الأمر يحتاج لدرجة عالية من التكيُّف من الطرفين، ومحاولات التلاقي في الطريق الوسط.
  • تقدير قيمة المال: تقدير قيمة الدخل المادي، والادخار، والاستثمار، وأولويَّات الإنفاق، ودرجات الرفاهية، كلها أمور تخضع بالدرجة الأولى لخيارات المجتمع والثقافة، وتختلف في كل مكان عن غيره. التناغم في الخطط الماديَّة هي واحدة من أهم عناصر التوافق الزواجي، وتحقيق الانسجام والتفاهم فيها يعدُّ أمرًا محوريًّا لنجاح العلاقات واستقرارها.
  • الاحتفالات والمواسم: ترتبط الاحتفالات بالتراث الشعبي والثقافي، والعادات المتوارثة تاريخيًّا لكل مجتمع. ما هي المواسم وأهمّ الأعياد؟ وما هي طقوس الاحتفال؟ هل هناك ملابس مميَّزة لهذه المواسم؟ أو لها أكلات ووجبات معيَّنة؟ كل هذه تفاصيل في الحياة العاديَّة سيكون على الزوجين فهمها واستكشافها معا.
  1. افتقاد الهويَّة الثقافيَّة: قد يشعر الفرد بعد فترة من هذه التجربة بالاغتراب أو افتقاد الهويَّة الثقافيَّة، فلا يشعر بما يربطه بجذوره الثقافيَّة والاجتماعيَّة، وقد يطرح على نفسه تساؤلات مثل من أنا؟ وإلى من وإلى أين أنتمي؟ وهل اخترت الطريق الصحيح؟ هذا الوضع النفسي مُعتاد جدًّا لدى المُغتربين، وأيضا لدى المتزوّجين من ثقافات مختلفة ويعيشون بين جنسيَّات متباينة.
  2. الاختلافات الدينيَّة: في حال الزواج من ديانات مختلفة، فإنَّ هذا يمكن اعتباره من أكبر التحدّيات، بل وأكثرها حساسيَّة كون الموضوع شائك والحديث عنه محفوف بالشحن العاطفيّ والثقافيّ والعقائديّ. ومن أمثلة المشكلات المترتِّبة على هذا الاختلاف: 
  • اختلاف المرجعيَّة: خاصَّة في أوقات الأزمات والكوارث والمشكلات، وعدم التكاتف بنفس الطريقة، وحتى احتمال عدم تفسيرها من نفس المنطلق، أو التعامل معها بنفس المنطق.
  • تربية الاطفال: عادةً ما يحتاج الزوجان للاتِّفاق مسبقًا على خطّتهما المشتركة للحديث عن الدين مع الأطفال إذا لم يكن للأبوين الدين نفسه. فهل سيكون على دين أحدهم؟ أم سيعلّمانه عن الأديان ويتركا له حريَّة الاختيار عندما يسمح له عمره بذلك؟ أم سيكون على ديانة البلد التي سيتربَّى بها؟ كلُّها أسئلة تحتاج للحسم والنقاش المُفصَّل عند التخطيط للإنجاب. 
  • التحييد: كثيراً ما يختار المتزوجان من دينين مختلفين، تحييد هذا الأمر، وعدم مناقشته بالتفصيل، ويتَّفقان على أن يكون لكل منهما حياته الروحيَّة، وطقوسه، وطريقته في التواصل مع الله. وفي المقابل يستندان على مجموعة القيم الإنسانيَّة المشتركة على أرضيَّة أكثر اتِّساعًا. وهذا هو أحد أفضل الحلول التي يستطيعان التوصُّل لها في الشأن الدينيّ، ولكن مشكلتها هي أوقات الصدام التي قد تتعارض فيها قيم أحدهما مع الآخر، أو ما يعتبره أحدهما الحقّ، ويجعل الآخر في كفّة الباطل.
  1. مُساندة الأهل: عادة ما تكون العلاقات المختلفة في الخلفيَّة الثقافيَّة والدينيَّة معًا محطّ استنكار وتحفُّز من الأهل. فحتَّى الصعوبات التي قد يتخطَّاها الزوجان معاً مثل اللُّغة واختلاف العادات والقيم، وغيرها من الاختلافات، قد لا يكون عند الأهل نفس القدرة على الامتزاج والانسجام مع أطراف مختلفة، خاصَّة إذا لم يتوفَّر وقت كافي للتواصل لظروف السفر أو غيرها. في هذه الحالة عادة ما تفتقد العلاقات العابرة للثقافات إلى الدعم الأُسري والمجتمعي، وتكون أكثر اعتمادًا على تكوين دوائر خاصَّة بهما مثل دوائر الأصدقاء، أو زملاء العمل، أو الجيران، أو غيرها من الدوائر الاجتماعيَّة.

ما هي إيجابيات الزواج العابر للثقافات؟

  1. اتِّساع الرؤية والفهم: حيث يستطيع كل فرد أن يستكشف عالمًا أكبر بكثير من عالمه، وآلامًا ومشكلات وطرقًا للتفكير تختلف عن تلك التي تعود عليها. هذا الأمر يدعم من المهارات الشخصيَّة والعقليَّة للأفراد، ويزيد من قدرتهم على التكيُّف، ويصقل مهارات حلّ المشكلات، ويطوِّر من المهارات الاجتماعيَّة والقدرة على التواصل.
  2. تجاوز التنميط والأفكار المسبقة: عندما يسمح الشخص لنفسه بالانفتاح والتعرُّف على العوالم الأخرى فإنَّه في الحقيقة ينضج عقليًّا ويتَّسع فَهمه للعالم، فيتغلَّب على الأفكار النمطيَّة التقليديَّة عن الآخرين، ويبدأ في فهم حقيقة الآخرين، والنظر لجوهرهم واستكشافهم كما هم فعلا، لا كما يُحكي عنهم أو يتصور العالم شخصياتهم.
  3. الحريَّة وإعادة اكتشاف النفس: حيث يعيد كل منهم اكتشاف نفسه بحرِّيَّة، وبدون قيود وضوابط المجتمع بقيمه وعاداته، التي تحمل الكثير منها المعنى والهويَّة الحقيقيَّة للإنسان، ولكنَّها كثيرًا ما تكون مبنيَّة على الجهل أو العادات غير الصحيَّة اجتماعيًّا ونفسيًّا، لذا التحرُّر من هذه القيود والبدء في مناخ جديد وخيارات مفتوحة يسمح للزوجين بإعادة استكشاف أنفسهما، واتِّخاذ قراراتهما بحريَّة أكبر.
  4. تربية أطفال مُزدوجي اللغة: تشير الدراسات إلى أنَّ الأطفال الذين تربوا لأبوين من لغات مختلفة لديهم القدرة الأكبر على اكتساب اللُّغتين معًا، بل وعلى اكتساب لغة ثالثة معهم إذا كانوا يعيشون في بلد تتحدَّث لغة ثالثة تختلف عن لغة الأب ولغة الأم. قد يكون الأمر أبطأ في البداية وعلى المدى القصير، ويتأخَّر النموّ اللّغوي للطفل نتيجة التشتُّت بين اللُّغات، ولكن على المدى الطويل يُثبت هؤلاء الأطفال قدرة أكبر على استخدام اللُّغات وفهمها.
  5. وجود دافع للتغير: لكثرة التحدّيات التي يواجهها الزوجان، فإنَّهما يبدآ عادة علاقتهما بدافع أكبر للنجاح، وتوقُّعات أكثر للتأقلم ومحاولة الانسجام وبذل الجهد من أجل تحقيق الاستقرار والسعادة الزوجيَّة، هذا الدافع غالبًا ما يُميِّز هذه الزيجات عن غيرها، حيث يبذل فيها كلا الزوجين مجهودًا أكبر من العادي في البناء والاستثمار في العلاقة.

كيف يمكن تحقيق التكيُّف والتغلُّب على عقبات العلاقات العابرة للثقافات؟ 

  1. الصبر: يحتاج بناء العلاقات في المُطلق إلى الصبر والاستثمار الهادئ طويل المدى. التفاهم وتطوير طرق مناسبة للتواصل وحلّ المشكلات كلّها تحتاج إلى الوقت والنفس الطويل من أجل الوصول إلى أنسب مسارات للطرفين.
  2. الحصول على لغات مختلفة للتواصل: صحيح أنَّ الكلام لغة التواصل الأولى، لكن لا زال هناك الكثير من لغات التواصل، التي يجب في حالة العلاقات العابرة للثقافات استثمارها. فالتواصل الجسدي والتعبير العاطفي عن المشاعر هو أحد المسارات، وكذلك المساعدة والتعاون، والتعاطف والشفقة، والتواصل المستمر بالأعين، وحتى اللَّعب وأوقات المتعة وأنشطة الترفيه المختلفة، كلّها تخلق مساحات تواصل غير معتمدة على اللُّغة المنطوقة وحدها.
  3. الحصول على دائرة دعم: بشرط أن تكون مُتفهِمة ثقافيًّا، وداعمة للاختلاف وتمنح الحبّ غير المشروط، وأيضا تقدِّم الدعم لأفرادها بلا قيود، هذه الدائرة في الغالب تقوم مقام دوائر العائلة والأُسَر الكبيرة التي قد لا تقوم بهذه المهمَّة بكلِّ انسجام. 
  4. المناقشة وحسم موضوعات الخلاف: هناك عدد كبير من موضوعات الخلاف الأكثر شيوعًا، يفضَّل أن يناقشها الزوجين في بداية العلاقة، وأن يقوما معًا بتوضيح توقُّعاتهما وقيمهما الفارقة في الموضوعات التي لا يستطيعان التنازل فيها، مثل عمل المرأة، مشاركتها في الخطط المادّيَّة، مشاركة الرجل في أعمال المنزل، مسؤوليَّات الأطفال وطريقة تربيتهم، والمسموح والممنوع لهم، والخطوط الحمراء تربويًّا ودينيًّا واجتماعيًّا، وغيرها من الأمور الجدليَّة التي يَحسُن بهم إثارتها وحسمها في وقتٍ مبكَّر بدلاً من اكتشاف مُفاجئ للصراعات.
  5. عدم الانقطاع عن الجذور الثقافيَّة: يحتاج كل إنسان إلى الشعور بالأمان والاحتواء والقبول في محيطه الأصلي، من المهمّ أن يُشجِّع الزوجان بعضهما على التواصل والعودة الدوريَّة للثقافة الأُمّ، من أجل مزيد من التغذية الروحيَّة والثقافيَّة، ومن أجل تحقيق التواصل مع الماضي وربطه بالحاضر والمستقبل. 
  6. وضع هدف مشترك: وجود أهداف مشتركة للزوجين يجعلهما أكثر تكاتفًا وتركيزًا على هدفهما، ويدعم تواصلهما ويخلق مسارات مشتركة بينهما، تتجاوز الفروقات الثقافيَّة بينهما.
اظهر المزيد

أية خالد

إخصائية نفسية حاصلة ليسانس الآداب قسم علم النفس بجامعة القاهرة، وعلى الماجستير في علم النفس الإكلينيكي، وكاتبة محتوى مهتمة برفع الوعي بالصحة النفسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: هذا المحتوى محمي بحقوق الملكية الفكرية