صدمات الطفولة.. كيف تترك بصماتها على علاقات الرشد؟ 

اقرأ في هذا المقال
  • من أمثلة الصدمات التي قد يتعرَّض لها الأطفال، وتترك تأثيرها عبر مراحل العمر
  • كيف يمكن أن تؤثِّر صدمات الطفولة على العلاقات الزوجيَّة؟
  • كيف يمكن التعامل مع تأثيرات صدمات الطفولة على العلاقات الزوجيَّة؟

يكون الأطفال أقل قُدرة على فهم الأحداث من حولهم وتفسيرها ووضعها في السياق المناسب، وبالتالي فإنَّ كثيرًا من الأحداث التي يستطيع الكبار تجاوزها والتعامل معها نفسيًّا، تعتبر بالنسبة للأطفال صدمات تترك بصماتها على نموّهم النفسيّ وتكوُّن شخصياتهم مدى الحياة، خاصَّة إذا كانت هذه الصدمات في السنوات الأولى من العمر. صحيح أنَّ الأهل يبذلون قصارى جَهدهم لحماية الأطفال وإبعادهم عن أي مصادر أذى مُحتملة، ولكن هذا ربما لا يمنع تعرّضهم الكامل للصدمات، خاصَّة وأنَّ السيطرة على العالم هو خَيار غير مُمكن، وأنَّ الأهل أنفسهم قد يشكِّلون-دون وعيٍ منهم- مصدر الصدمات والإساءة للأطفال. 

قد تبدو صدمات الطفولة وتأثيرها في الرشد من كليشيهات الطبّ النفسي، ولكن تشير إحدى الدراسات الأمريكيَّة إلى أنّه وفقًا لاستطلاعات الرأي، عبَّرت أكثر من ثلثي العينة البحثيَّة عن تعرّضها لصدمة حياتيَّة واحدة على الأقل خلال الطفولة، بينما أعرب 1 من كل 8 عن تعرُّضهم للإساءات الجنسيَّة في الطفولة، و1 من بين كل 4 قد تعرَّضوا للعنف أو الإيذاء الجسدي. وفي إحدى الدراسات الأمريكيَّة الحديثة عام 2019، عبَّر 1 من بين كل 5 طلاب في المدرسة الثانويَّة عن تعرّضهم للتنمُّر.

ومن أمثلة الصدمات التي قد يتعرَّض لها الأطفال، وتترك تأثيرها عبر مراحل العمر:

  • التعرُّض للضرب والإيذاء الجسدي.
  • التجاهل والتهميش وعدم تلبية احتياجات الطفولة.
  • التنمُّر.
  • الاعتداء الجنسي.
  • غياب أو وفاة أحد الوالدين.
  • الكوارث الطبيعيَّة والحروب.
  • التعرُّض لأزمة صحّيَّة كبرى.

وبشكل عام هناك الكثير من العوامل التي تؤثِّر على استجابة الأطفال للصدمات، ودرجة تأثيرها عليهم، منها:

  • عمر الطفل وقت التعرُّض للصدمة، وبالتالي الطريقة التي يفسر بها الأحداث ودرجة وعيه وفَهمه لها، وقُدرته على تذكّرها وربطها بالأحداث الأخرى.
  • نوع الصدمة وشِدّتها والمدَّة التي تعرَّض إليها الطفل، وما إذا كانت تجربة واحدة سيِّئة، أو تجارب متكرِّرة على مدى زمني طويل. 
  • طبيعة الشخصيَّة، حيث تختلف طريقة استجابة الأطفال للمواقف والخبرات السلبيَّة وفقًا لشخصيّاتهم ونمط تفكيرهم.
  • دوائر الدعم التي تتمثَّل في دوائر الرعاية القريبة مثل الوالدين والأخوة، وزملاء المدرسة والمدّرسين، ودوائر الأهل والأصدقاء المختلفة. فكلّما حظي الطفل بدوائر دعم قويَّة، كلَّما كانت قدرته أكبر على تجاوز الصدمات وتقليل آثارها المحتملة عليه. 

كيف يمكن أن تؤثِّر صدمات الطفولة على العلاقات الزوجيَّة؟

بشكلٍ عام، غالبا ما يتشكَّل نمط العلاقات في السنوات الأولى من العمر. صحيح أنَّ شخصيَّة الفرد تتغيَّر وتنضج عبر تجارب وخبرات الحياة، ولكن الخطّ السائد غالبا يتعلَّق بما تعلَّمه الطفل عن العلاقات في مراحل حياته الأولى، وإذا كان قد اختبر أي صدمات أو أحداث قاسية تؤثِّر على ثقته بنفسه، وبمن حوله، وبشعوره بالأمان في العلاقات القريبة. ومن أهمِّ التأثيرات التي تتركها صدمات الطفولة، وتظهر تَجلّياتها في العلاقات الزوجيَّة:

  1. نمط التعلُّق: يتكوَّن نمط التعلُّق الذي يلازم الشخص في مراحل حياته المختلفة في سنوات الطفولة الأولى، بناءً على علاقته بالأُمّ أو القائم بالرعاية. عندما يتعرَّض الطفل لخبرات سلبيَّة غالبا ما يطوِّر واحدًا من ثلاثة أنماط من التعلُّق، وهي نفسها التي تميِّز علاقته بالزوج أو الزوجة في المستقبل: 
  • نمط التعلُّق القلق: وفيه يشعر الفرد معظم الوقت بالخوف والقلق من الترك أو من فقد الطرف الآخر، ويحتاج لتأكيدات مستمرّة بأنَّه محبوب ومرغوب فيه، وغالبًا ما يشعر بأنَّه ليس جديرًا بالحبِّ بما فيه الكفاية، أو بأنَّ (الزوج/ الزوجة) لا يقدِّم الاهتمام الكافي له. 
  • نمط التعلُّق التجنُّبي: حيث يشعر الفرد بالانزعاج من الاقتراب الزائد والحميميَّة المبالغ فيها في العلاقة، ويجد راحته أكثر في وجود مسافة بينه وبين (زوجه/زوجته)، ونادرًا ما يعبِّر عن مشاعره، ويكاد يكون غير متاح عاطفيًّا.
  • نمط التعلُّق المشوّش: وهو يجمع بين النوعين السابقين، القلق والتجنُّبي. وفيه غالبًا ما يكون الشخص قد تعرَّض للتجاهل أو الإهمال أو التعنيف في الطفولة، ويتأرجح بين الرغبة في القرب من الآخر وقضاء الوقت الحميمي معه، والخوف من خسارته وفقدانه، وبين رغبته في الهروب والانعزال والاستغناء عن الآخرين وعدم التورُّط العاطفي معهم.
  1. الثقة بالنفس وبالآخرين: إذا مرَّ الشخص بخبرات إساءة مباشرة، لا سيما إن كانت تتعلَّق بالإيذاء البدني مثل الضرب أو النفسي مثل التجاهل والإهمال، وكان مصدرها أحد الوالدين، فإنَّه من المتوقَّع جداً أن يعاني من مشكلات تتعلَّق بثقته بنفسه وبقدرته على النجاح وبشعوره بالاستحقاق في العلاقات، وكذلك لا يمكنه أن يثق بسهولة بوجود شخص أهل للثقة، ومصدر حقيقي للدعم غير المشروط.
  2. القدرة على التواصل الصحِّي: مشكلات التواصل مع الآخرين هي واحدة من الآثار المترتِّبة على الخبرات المسيئة في الطفولة. فقد تنتِج سلوكًا عدوانيًّا وعنيفًا تجاه الآخرين، أو سلوكًا سلبيًّا وخاضعًا وشخصيَّة ضعيفة ومهزوزة ليس لها رأي وغير قادرة على اتِّخاذ القرار، وتميل فقط لإرضاء الآخرين. أو مزيج بين الاثنين في ما يسمَّى بالسلوك السلبي العدواني، وفيه يكون الشخص غير قادر على التعبير المباشر عن مشاعره، فيميل إلى كتمانه وكبته، والتعبير عن غضبه وانفعاله لاحقًا بأشكال أخرى، مثل الصمت، واللامبالاة، أو السخرية، أو إلقاء النكات العدائيَّة، أو العبوس. 
  3. الذكاء العاطفي: ويعني قدرة الشخص على تمييز مشاعره في وقتٍ ما، وتمييز مشاعر الآخرين ومواقفهم في نفس الوقت، والتصرُّف بناء على الاثنين معا. وتشمل مشاعر مثل التعاطف، والشفقة، واختيار الكلام المناسب في الوقت المناسب، والقدرة على التعبير عن المشاعر، وعلى تفهُّم مشاعر الآخرين أيضا. كذلك تشمل قدرة الفرد على التنسيق بين أفكاره ومشاعره وسلوكه، وأيضاً تفهُّم العلاقة بين أفكار الآخرين ومشاعرهم والطريقة التي يتصرَّفون فيها.
  4. الصحَّة النفسيَّة والعقليَّة: التعرُّض لصدمات الطفولة والخبرات الصعبة يجعل الأطفال أكثر عُرضة للإصابة باضطراب كرب ما بعد الصدمة PTSD، والذي ربما يستمرّ إلى سنوات قبل اكتشافه، واكتشاف علاقته بالاتِّجاهات النفسيَّة والسلوكيَّة السلبيَّة الناجمة عنه. كما تشير الدراسات إلى وجود علاقة إيجابيَّة بين التعرُّض للإيذاء والإساءات في الطفولة وزيادة نسبة الإصابة بالأمراض النفسيَّة مثل الاكتئاب والقلق والإدمان والمشكلات النفس-جسديَّة.

كيف يمكن التعامل مع تأثيرات صدمات الطفولة على العلاقات الزوجيَّة؟

  1. التفهُّم والتقبُّل: إذا اختار (زوجك/زوجتك) أن يشاركك بتعرُّضه لصدمات أو إساءات في الطفولة، فهو يحتاج لأن يجد لديك ملاذاً آمناً، وقبولاً غير مشروط. ربما لا يكون في إمكان أحد انتشال الآخر من ماضيه وخبراته السلبيَّة، وبالطبع لا يملك أحد خاصيَّة مسح الذكريات المزعجة، ولكن ما يمكن أن يقدّمه الأزواج إلى بعضهم هو التفهُّم والتقبُّل وعدم محاكمة ماضيهم أو الطريقة التي أصبحت عليها شخصيّاتهم بسببه، ومنحهم مساحة حرَّة للتعبير عن مشاعرهم وألمهم.
  2. العلاج النفسي: يُنصَح أي شخص تعرَّض لخبرات صادمة أو مسيئة في الطفولة، ويشعر بأنَّ آثارها تمتدُّ لعلاقاته الزوجيَّة والاجتماعيَّة، وتمثِّل تهديدًا لاستقراره النفسيّ أو الأُسريّ أو الصحيّ أو الاجتماعيّ، بأن يلجأ فورًا للمتخصِّص النفسي، والذي سيقرِّر بدوره الطريقة والتكنيك المُناسبين للعلاج. ومن أهمِّ تكنيكات العلاج النفسي المستخدمة في علاج صدمات الطفولة:
  • العلاج المعرفي Cognitive therapy
  • العلاج المعرفي-السلوكي  Cognitive behavioral therapy (CBT)
  • إزالة التحسُّس وإعادة المعالجة عن طريق حركة العين Eye movement and desensitization and reprocessing (EMDR)
  1. المشاركة في رحلة التعافي: صحيح أنَّها تبدو رحلة طويلة وصعبة، ولكنَّها ممكنة، خاصَّة إذا خاضها الزوجان بوعي وبحبٍّ وتفاهم، وبقدرة على التواصل والحديث الصريح المفتوح، الذي يتبادلان فيه الأفكار والمشاعر ببساطة وسلاسة، ويأخذان معاً خطوات جدّيَّة على طريق إدراك العلاقة بين الماضي والحاضر، والعمل الجادّ على الإصلاح والتغيير نحو الأفضل لمستقبل الفرد والعلاقة الزوجيَّة والأسرة بالكامل.

اظهر المزيد

أية خالد

إخصائية نفسية حاصلة ليسانس الآداب قسم علم النفس بجامعة القاهرة، وعلى الماجستير في علم النفس الإكلينيكي، وكاتبة محتوى مهتمة برفع الوعي بالصحة النفسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: هذا المحتوى محمي بحقوق الملكية الفكرية