العلاقات الزَّوجيَّة في زمن الرَّأسماليَّة .. ما مدى تأثُّرها؟

اقرأ في هذا المقال
  • العلاقات الزَّوجيَّة في زمن الرَّأسماليَّة
  • الأسرة المُتماسكة على مرِّ العصور
  • الضغوط الاقتصاديَّة وزيادة الأعباء اليوميَّة
  • كيف تتبنّى الرأسماليَّة تسليع العلاقات؟
  • كيف تركت الحداثة أثرها على الإنجاب؟
  • كيف بإمكانِنا أن نَحُدَّ من تأثير الرأسماليَّة على العلاقات؟

في ساعات الصباح الباكرة، تبدأ السيِّدات أيّامهنّ بمُسابقة الوقت في سبيل تلبية مُتطلّبات أزواجِهنّ وأبنائهِنّ الصباحيَّة، قبل إيداعهم المدارس أو الحضانات، ومن ثمَّ الانطلاق نحو أعمالهِنّ استعدادًا ليوم عملٍ شاقّ، لا ينتهي غالبًا قبل الثالثة مساء، ورُبَّما يستمرّ حتى ساعات مُتأخّرة من المساء. هذا الشكل الحديث ليوم المرأة بات أحد النماذج المُعبِّرة عن الرأسماليَّة في زمن الحداثة، والتي أرغمت النساء والرجال على حدٍّ سواء على العمل لساعات طويلة، من أجل تلبية المُتطلَّبات المعيشيَّةفي زمن الرَّأسماليَّة ، وكانت لها اليد العُليا في جعل الشكل التقليدي للأسرة صورةً من صُور النوستالجيا.

الأسرة المُتماسكة على مرِّ العصور

على مدار قُرون طويلة، ظلّ نموذج الأسرة مثالًا للعلاقات الاجتماعيَّة الأثر تماسكًا، وظلّ هذا الجوهرُ صامد على مدار العديد من العقود، حتى ظهور المبادئ والنظريَّات الرأسماليَّة التي كان لها دورٌ كبير التأثير على هذا التماسك، إذ حجّمت الحياة الحديثة من قُدرة الناس على بناء العلاقات الاجتماعيَّة، والمُحافظة عليها، وتنميتها، وجعلها ركيزةً لا غنى عنها.

اقرأ أيضًا: الاتِّزان بين العمل والأسرة؛ كيف يؤثِّر غياب الزوج على استقرار الأسرة؟

الضغوط الاقتصاديَّة وزيادة الأعباء اليوميَّة

يُعدُّ العمل المُكثَّف والمُستمرّ والضَّاغط واحدًا من أبرز سِمات ومُخلَّفات الرأسماليَّة، وهي من السّمات ذات التأثير البالغ على هيكل الأسرة وتماسكها، والعلاقة ما بين الأزواج، إذ تنصّ مبادئ الرأسماليَّة على تحفيز الأفراد نحو الكسب المادِّي والعمل المُكثّف، من أجل تحقيق نمطٍ اجتماعيِّ مُرتفع، الأمر الذي يدفع كلا الزوجين نحو العمل لساعات طويلة يوميًّا، ممَّا يؤثِّر سلبًا على جودة العلاقة الزوجيَّة والجنسيَّة بين الأزواج.

كيف تتبنّى الرأسماليَّة تسليع العلاقات؟

نالت مبادئ الرأسماليَّة التي تُحدِّدُ قيمة الشيء بحسب ربحيّته فقط تحت شِعار “دعهُ يعمل، دعهُ يَمُرّ”، نصيبها من العلاقات الإنسانيَّة والزوجيَّة، وحوّلتها من صورتها المبنيَّة على أسس المودّة والرحمة، إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى، ووسيلة ناجعة من أجل تحقيق أهدافها المادّيَّة، مثل الاستقرار المادّيّ، والشعور بالسّعادة، وغيرها من الأهداف المادّيَّة البحتة، جرّاء سعيها المُستمرّ طوال الوقت إلى تسليع كُل شيء.

اقرأ أيضًا: هل يؤثِّر تأخُّر سِنّ الزواج على الخطط الإنجابيَّة للأسرة؟ 

تأثير الثورة التسويقيَّة على العلاقات الجنسيَّة في زمن الرَّأسماليَّة

خلال العقود الماضيَّة اعتمد التسويق الرقميّ على عددٍ من المبادئ التي لم تكُن مألوفةً في الماضي، مثل استخدام أجسام النساء باعتبارهِنّ أداةً من أدوات التسويق، من أجل تحقيق أفضل المبيعات، الأمر الذي انعكس على تصوّرات الأزواج للعلاقات الحميميَّة، ورفع من سقف توقّعاتهم تِجاه زوجاتهم، ورسم في أذهانهم صُورةً مثاليَّة لا تكادُ توجد على أرضِ الواقع، الأمر الذي قد يُشعرُهم بالإحباط تجاه زوجاتهم، ويزيد من الفجوة في هذا الإطار.

الاستقلال المادّي والعلاقات الجنسيَّة

عزّز الاستقلال الماديّ للسيِّدات، وانخراطهُنَّ في أسواق العمل من شُعورهن بالاستغناء عن أزواجهنّ، ونتيجة الحداثة والعلاقات السائلة، لم تعُد الأسرة بمفهومها التقليدي تحظى باهتمامٍ كبير من قبل شريحةٍ واسعة من السيِّدات كما هُو الحال في الماضي، الأمر الذي انعكس سلبًا على العلاقات الأُسريَّة، والاجتماعيَّة، والزوجيَّة.

اقرأ أيضًا: الصَّمت العقابي في الزواج؛ نهاية الحوار وبداية المشاكل

كيف تركت الحداثة أثرها على الإنجاب؟

تركت الرأسماليَّة بما تتضمَّنهُ من أزمات ماديَّة واقتصاديَّة أثرها على قدرة الزوجين على الإنجاب نتيجة زيادة الأعباء المادّيَّة، والتفكير المُستمرّ في كيفيَّة تحسين الأحوال المعيشيَّة، الأمر الذي ترتّب عليه -كما أسلفنا- انخفاض الرغبَة الجنسيَّة بين الأزواج، ممَّا حدّ من القُدرة على الإنجاب.

وعلى صعيدٍ آخر، تضاءلت أعداد الأطفال في الأسرة الواحدة، وتزايد اعتماد السيِّدات على وسائل منع الحمل، من أجل التقليل من فُرص الحمل، نتيجة عدم القُدرة على تحمّل أعباءٍ ماديَّة إضافيَّة.

التواصُل الأسريّ، هل بات خيالًا من الماضي في زمن الرَّأسماليَّة ؟

في الماضي كانت الجلسات الأُسريَّة طقسًا من طقوس الأسرة، أمّا اليوم فقد بات فُقدان التواصل بين أفراد الأسرة أحد أبرز الأشكال التي يتجلّى من خلالها المأزق الحداثيّ الرأسماليّ، إذ بات لِزامًا على الآباء المُكوُث لفتراتٍ طويلة خارج المنزل، نتيجة ضُغوط العمل وكثرة المسؤوليَّات، الأمر الذي يحُول بينهم وبين التواصل الفعال مع الزوجة والأبناء، وأخلَّ من هيكل الأُسرةِ الحديثة ونظامها.

كما ترك العمل عن بُعد كذلك تأثيراته على العلاقات الأسريَّة والاجتماعيَّة على حدٍّ سواء، إذ ساهم في زيادة عُزلة العامل عن مُجتمعهِ الواسع، وقضاء الكثير من الوقت مُنفردًا، وتداخل الحدود ما بين أوقات العمل، والأوقات الأُسريَّة، وقطع أواصر العلاقات الزوجيَّة السليمة في زمن الرَّأسماليَّة.

اقرأ أيضًا: تأثير الأزمات والكوارث على العلاقات الزوجيَّة

شِباكُ الفردانيَّة .. هل أصبحت واقعًا في زمن الرَّأسماليَّة؟

في ظِلِّ تأثير الرأسماليَّة على العلاقات، وتحويلها إلى صورةٍ أكثر سُيُولة، تعزَّزت لدى الأفراد فكرة الفردانيَّة، وباتت تطفُوا على السّطح بصُورةٍ واضحة، الأمر الذي أدَّى إلى عُزوف الشباب عن الزواج، وانشغالهم بتحقيق النجاح الشّخصي والمادي، والاكتفاء الذاتي، وجعل من الزواج بمفهومه التقليديّ عبئًا يحُول بينهم وبين تحقيق هذا النجاح، وغيَّر من الطريقة التي يُنظر بها إلى العلاقات، وجعلها مُركّزةً على المردود المادي من ورائها.

العلاقات قصيرة الأمد باتت خيارًا مُفضَّلًا

في ظلِّ مبادئ الرأسماليَّة التي تُبنى على قواعِد ثلاثة واضحة، وهي: الفرد والحُريَّة والمصلحة الشّخصِيَّة، بات الالتزام بعلاقاتٍ طويلة المدى مثل الزواج خيارًا صعب التحمُّل، وازداد الإقبال على العلاقات القصيرة المُؤقَّتة، والعلاقات المفتوحة، والزواج دون إنجاب (مع الاتِّفاق مُسبقًا)، ممَّا أثّر على السياق الاجتماعي للعلاقات الزوجيَّة والاجتماعيَّة.

اقرأ أيضًا: الصحَّة الجنسيَّة والانجابيَّة والمساحات الآمنة

كيف بإمكانِنا أن نَحُدَّ من تأثير الرأسماليَّة على العلاقات ؟

لا شكّ بأنَّ إحداث التغيير في نظامٍ عالميٍّ مُمتدّ عبر مئات السنين هُو أمرٌ يحتاج إلى بذل الكثير من الجُهد المُتراكم والمُستمرّ، ومع ذلك فإنَّ مُقاومة تأثير الحداثة و الرَّأسماليَّة على علاقاتنا الزوجيَّة المُصغّرة بات أمرًا واجبًا ومُمكنًا إلى حدٍّ كبير، وتشمل أهمّ الأدوات:

  1. التواصل والمُصارحة المُستمرَّة: لا شكّ بأنَّ التواصل الدائم، والمُصارحة المُستمرّة، والنقاش حول العقبات والمشاكل التي قد تُهدِّد علاقتهما الزّوجيَّة، والنقاش المُنفتح حول رغباتهما الجنسيَّة وتطلّعاتهما، ومشاعرهما، وكافة الضُغوطات التي قد يمُرّون بها.
  2. مُحاولة التعامل مع الضُّغوط: من المُهمّ الحرص على إيجاد الحلول الفعّالة من أجل التغلّب على الضُغوط الاقتصاديَّة والمادِّيَّة، والتخطيط المادِّي الجيّد، والنقاش المُستمرّ ما بين الزوجين من أجل الوصول إلى حلولٍ مُثمرة بشأن شؤونهم المادّيَّة، من أجل الحدّ من تأثيرات الضغوطات الماديَّة على الحياة الأسريَّة، والسلام النفسي للزوجين.
  3. خفض سقف التّوقُّعات: من الضروري النظر إلى العلاقات الحميمة والعلاقات الزوجيَّة بنوعٍ من العقلانيَّة، ومُقاومة التأثُّر بأدوات التسويق والتسليع التي تفرضها الرأسماليَّة، والنقاش بين الأزواج حول توقّعات كُلّ طرفٍ من الآخر، وخفض سقف التوقّعات إلى الحدّ العقلاني الذي من شأنه أن يُحافظ على ترابط الحياة الأسريَّة.
  4. السّعي من أجل التوازُن: يجدُر بكِلا الزّوجين مُحاولة إيجاد نوعٍ من التوازن الصحّي ما بين حياتهم الأسريَّة والعمليَّة، من خلال تخصيص وقتٍ لتدعيم العلاقات الأسريَّة، ومُمارسة الأنشطة المُتنوّعة، هذا الأمر من شأنه أن يُقلّل من التأثيرات الحداثيَّة على العلاقات الزوجيَّة في زمن الرَّأسماليَّة .
  5. زيارة الطبيب النفسي: لا شكّ بأنَّ الضُغوطات الاقتصاديَّة والحياتيَّة المُختلفة من شأنها أن تترك أثرًا ملحوظًا على السلام النفسي والصِّحَّة النفسيَّة للأزواج، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من زيارة الطبيب النفسيّ خيارًا جيِّدًا، للتخفيف من حِدّة التوتُّر والقلق.

اقرأ أيضًا:أدوات الاتِّصال والتّواصُل بين الزّوجين

المصدر
Capitalism and the family. Foundation for Economic EducationSocialist Alternative. (n.d.). The family under capitalism. Socialist Alternative.Boston Review. Nine ways that capitalism is ruining sex. Boston Review.International Socialism Journal. (2019, May 7). Sexuality, alienation, and capitalism. International Socialism Journal. The Independent. (2021, March 4). Capitalism, feminism, and sex work. The Independent.
اظهر المزيد

اسراء سامي

إسراء سامي هي خبيرة في مجال صناعة المحتوى، حازت على درجة البكالوريوس في المجال الطبي. تتميز بخبرتها الواسعة في كتابة المحتوى العلمي والثقافي المتنوع. اهتمامها البارز ينصب في القضايا الصحية وشؤون المرأة، بما في ذلك الصحة الجنسية والإنجابية. تتقن كتابة مقالاتها باللغة العربية، مستندة إلى خلفيتها العلمية، بهدف تقديم معرفة قيمة وموثوقة للقراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى